من يتدبر المحنة جيدا، يدرك أن الانسان كلما صعد الى السماء اقترب من حيث لا يعلم الى الهاوية وأن السياسة هي رحلة بحث عن القمة في جوف الارض، متقلبة وصعبة  في ممارستها ووقحة في اساليبها وكافرة في ديانتها وسالبة للمعنى في اهدافها، تتحول في غالب الاحيان الى عبث مضاد يقذف بمالك السلطة الى أقاصي الجحيم دون أن يعلم.

لم يكن يعلم رئيس الجمهورية الحالي ، قبل 2011 انه سيكون يوما ما في قصر قرطاج ، لم يكن يعلم شيئا سوى انه كان رقما في قائمة دولة الاستقلال و ان العمر بعث به الى التأمل و الاستنتاج و الكتابة  بعيدا عن مجالات الفعل السياسي، ولكن ارادت لعنة الديمقراطية او نعمتها ان تحمله من جديد مع حقيبته و  اوراقه القديمة و ملكاته المتجددة الى  الرئاسة ، و وضعته دفعة واحدة امام ملفات  تخجل اعتى العقول النيرة امامها ، هي بالاساس ملفات متشابكة و معقدة يتقاطع فيها ارث بالماضي بحاضر لم تكتمل فيه الرؤية.

بازار الازمات في تونس هو عبارة عن سوق للبضائع القديمة التي تعجز اقوى فنون الرسكلة على اصلاحها من جديد  ولكن مدى وعود الرئيس كانت حالمة وكبيرة، مغرية و بلا حدود ، انطلقت من الحديث على كشف حقيقة الاغتيالات الى الحديث على القدرة على تشكيل اربع حكومات دفعة واحدة وامكانية تدفق سيلان الدعم الدولي والتمويلات المجانية من أجل زرقة عيوننا وزرقة بحرنا الذي تلطخ 5 اشهر فقط بعد وصول الرئيس بدماء الانقليز والالمان في أجرأ عملية ارهابية عرفتها تونس في تاريخها الحديث.

 لم يخطئ الاوائل عندما قالوا بانه كلما علا  سقف الحلم  يصبح الاحساس بالواقع صعبا، تلك هي المعادلة البسيكولوجية الصعبة التي ضربت المجتمع التونسي ، انتظر الكثير لكنه تفاجأ باسترسال الفواجع و الضربات و الانتكاسات ، انتظر جنة موعودة تقطعها جعافر الرحيق المختوم  و لكنه استفاق على نسبة نمو لم تتجاوز الصفر بالمائة و انهيار مدو للدينار امام العملات الاجنبية  و نسبة عجز تجاري يقارب 10 بالمائة و نسبة مديونية تفوق 54 بالمائة  ، بالاضافة الى ارتفاع نسب البطالة و الهجرة السرية و الالتحاق بالجماعات المقاتلة و تنامي ظاهرة الانتحار و انتشار رقعته.

لا تبدو الصورة مغرية  عند الحديث عن تونس ، فهناك حالة من الامتعاض الجماعي على الوضع العام يغذيه انكسار الثقة في الطبقة السياسية وتكرار مشاهد البهلونيات البرلمانية وترسخ اللامبدئية الحزبية والصراعات المحمومة على التموقع التي أصبحت رياضة سياسية يومية، فجرائدنا لا تروي الا فصول الهزائم المعنوية التي تضرب كل شرائح المجتمع : الجريمة، السرقة، التحيل وقضايا الفساد و الرشوة، و كأننا تدحرجنا الى  مستوى دول اوروبا الشرقية و امريكا اللاتينية..هذه الدول او ما يسمى بالموجة الرابعة للديمقراطيات  التي تحولت الى مجالات مفتوحة للمافيات و اللوبيات و المخابرات الاجنبية، بمعنى ان الديمقراطية احيانا تحول الدول غير الجاهزة ثقافيا الى هيكل بلا روح  او مجرد مساحة مفتوحة لكل القاذورات. هي تلك تونس اليوم يعجز فيها اي مراقب او متابع على تحديد مكمن السلطة، نعم انتهينا الى سؤال وجودي مغلف باستفهامات دستورية وقانونية هو: اين بيت السلطة في تونس؟

وفي كل هذه الحالة الوطنية الصعبة  يعجز الرئيس الباجي قائد السبسي، صاحب كتاب البذرة الصالحة عن ايجاد البذرة الصالحة التي بامكانها انتاج المعنى في هذا الواقع المتقلب ، لقد بقي الرئيس في قصره  يداعب ضميره المتقطع بين اكراهات السلطة وكيفية  ادماج ابنه في المشهد دون ان تستفيق في اذهان الاخرين عقدة التوريث. ظل حافظ قائد السبسي ظل الازمات في رحلة الاب القيادية على راس الدولة طيلة السنة والنصف الماضية.

اب في التسعين يفاوض سرا و علنا ابنا في الخمسين حول اوضاع الحزب و البلاد، هنا تقف رمزية العمر في حوار بين شيخ و كهل، بين اب وابن و بين اب جنح بطموحه في اخريات الرحلة وابن يبحث عن الاستثمار في طموح الاب و موقعه.

حقيقة هي علاقة فلسفية نفسية  لا يكاد يخلو من تكرارها  الادب السياسي ، و لكن المفارقة انها تنتهي دائما بالكوارث و الازمات  لان السلطة طائرة بطبعها و جامحة لا تقبل بمعادلات العائلة وصبيانية الابناء. و في هذه النقطة بالذات تكبر محنة الرئيس التي لم يجد لها مخرجا اخلاقيا و سياسيا.

لقد انتصر رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي على كل المواعيد التي خاضها بعد 2011، انتصر عندما قاد مرحلة التهدئة الاجتماعية بعد خروج بن علي  ، و نجح عندما اوصل البلاد الى انتخابات 2011، و نجح في العودة من جديد و مقارعة الاسلاميين و تأسيس حزب نداء تونس، ونجح عندما اخرج الترويكا من الحكم، ونجح عندما انتصر في انتخابات 2014 ولكنه لم ينتصر على موعد مهم ذي طابع بسيكو سياسي هو موعد الذات.

لم ينتصر على نفسه و اخاله يرى في ابنه امتدادا لمشروع فاجأه في عمر متأخر،  فلم يستطع ان يبعده سرا عن المشهد او يدفعه جهرا الى اللعب تحت الكشافات، لذلك ان محنة الرئيس، هي محنة متعددة الابعاد: سياسية واجتماعية و اقتصادية  وهي  ربما  قدر كل القيادات، و لكن التاريخ لا يذكر الا الذين انتصروا على المحن، فهل يستطيع الباجي قائد السبسي الانتصار على المحنة؟

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.