لا يجوز تعديل هذا الفصل!

لا يجوز تعديل هذا الفصل.. هي الجملة التي ألحقها نوابنا المحترمون بالفصلين الأول والثاني من الدستور في المصادقة عليه التي بدأت يوم السبت.

أي بعبارة أخرى أن الفصلين لا يقبلان أي تعديل من اي مجلس منتخب قادم وأي مؤسسة قانونية او تشريعية او رئاسية. اصباغ "القداسة" على فصول من الدستور بحيث لا تقبل اعادة الصياغة او الحذف او التعديل لم نره في أي تاريخ شعب من شعوب الديمقراطيات العريقة التي تحترم نفسها.

حتى الله في سمائه علمنا منذ خمسة عشر قرنا أنه يمكنه ان يعدل في نصوصه وينزل آية بدل آية ويعوض اية باية في قرانه. من يعرف مسألة الناسخ والمنسوخ في القرآن يعرف ان قداسة النصوص لا محل لها مع اكراهات الواقع وتبدله وتغيره.

الله نسخ ايات من القران وقال لنا انها لم تعد صالحة للواقع. هي فقط يتعبد بتلاوتها. نواب التأسيسي اضافوا جملة لم يقل بها الاولون والاخرون. نصبوا انفسهم وفرضوا نصا يعتبرونه اضمارا مقدسا لا يجب مسه او النيل منه!

لنعد الى النصين محل جملة "لا يجوز تعديل هذا الفصل". النص الاول المعني بهذه الجملة هو الفصل الذي يقول " تونس دولة حرة ،مستقلة، ذات سيادة، الاسلام دينها، والعربية لغتها، الجمهورية نظامها. لا يجوز تعديل هذا الفصل".(الفصل الاول من المبادئ العامة).

من الواضح ان الذين أضفوا صفة "القداسة" على هذا الفصل هم الاسلاميون وحلفاؤهم وهو نص يشير ضمنيا الى ان الاسلام دين الدولة بما يعنيه من فتح مجال واسع لتأويل معنى "اي اسلام" سيكون دينا لهذه الدولة. للقارئ والاجيال القادمة الاجتهاد. لنا تجارب كثيرة من الاردغانية ( نسبة الى طيب أردغان) الى الطالبانية (نسبة الى طالبان). كل حسب اجتهاده وكل حسب شعبيته في تطبيق هذا الفصل من الدستور على طريقته.

النص الثاني الذي أرفد بجملة "لا يجوز تعديل هذا الفصل" هو الفصل الذي يقول الاتي" تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وارادة الشعب، وعلوية القانون. لا يجوز تعديل هذا الفصل".(الفصل الثاني من المبادئ العامة).

بمثل "نص دين الدولة" اي الفصل الاول، يحظى هذا الفصل بنفس قداسة الفصل الاول. الفصل الاول يترك المجال ممكنا للدولة التي تتدثر بعباءة الدين وتدافع عنه وتحميه. والفصل الثاني يقول لنا العكس ان الدولة مدنية وهو مصطلح يستعمله الحداثيون العرب عادة من أجل الهروب من تحمل مسؤولياتهم، خشية من رهافة حس العامة، في الدعوة الى دولة تفصل بين الدين والدولة أي الدولة العلمانية. 

في الفصلين "المقدسين" من دستورنا الجديد تناقض تبنى عليه هوية الدولة وهو تناقض يعبر عن الاستقطاب الثقافي والسياسي الحاصل. الفصلين مترافدين متتاليين لا يحسمان بالقطع في هوية الدولة التي نريد.

هي دولة رعايا دينها الاسلام وهي دولة مواطنين ومدنية على حد السواء. وكلا المفهومين الذين يؤسسان لهوية الدولة "المتناقضة" مبنيان على القداسة التي لا يجوز مسها او تعديلها. أعطى نوابنا المحترمين لانفسهم صفة القداسة ومنعوا اي تعديل او الغاء يمكن ان يقوم به او يفكر به طرف لسبب ما في المستقبل.

كل طرف حصن مقدساته بنص مقدس في الدستور. الاسلاميون حصنوا دولتهم الدينية بقداسة جملتنا السحرية والحداثيون حصنوا مملكتهم الحداثية بنفس الجملة.

على التونسيين الذين يفكرون في الغاء الدستور او تعديل فصليه الاولين ان يقوموا بثورة ثانية من اجل فرض مجتمعهم الذي يريدون. 

بلا شك وبناء على ما سبق فان نوابنا اعطوا لانفسهم العصمة والغوا اي تطور من الممكن ان يحدث في اي مجتمع. تحنيط النصوص هو سمة دساتير البلدان المتخلفة او دساتير العالم الثالث التي لا قيمة لها ونوابنا لم يشذوا على هذه القاعدة.

بلا شك وبعيدا عن الجملة المقدسة التي ابتدعها نوابنا والتي زايدت كما اسلفنا نسخ وتعديل الله في نصوصه، تحمل اشكالا ثقافيا يعيشه التونسي والعالم العربي منذ قرون. هذا التمزق بين مراجع ونماذج متباعدة والذي خلق مواطن عربي مصاب بانفصام في شخصيته. التونسيون ودستورهم الجديد لم يغير من هذا الوضع ودستورهم يعبر عن هذا الانفصام. وكل دستور وانتم بخير. 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.