في الإعتراف بالجميل زمن وباء الجحود

يمكن القول إنّ أحد أبرز مسارات الثورة ومآلاتها كان التنكّر والجحود لمن صنعها. فبعد فترة وجيزة من تثمين من ساهم فعلا في الصمود وزعزعة الإستبداد وساعد على تجاوز الفترة الحرجة الأولى، من أفراد ومنظمات ومؤسسات، سرعان ما عادت الآلة القديمة إلى الصدارة والتحكم في المصائر ومنها إعلاميو الإستبداد (برهان بسيس مثالا) و منظّروه (رضا الملولي نموذجا)، فضلا عن محامييه وقُضاته وإدارييه وساسته ومثقفيه (وقائمة أسمائهم لا تُعدّ ولا تحصى).

أعاد هؤلاء رتق الفتق بحذلقة وحِرفية واغتسلوا وتطهروا ثم استووا على المنابر والمناصب وكأنّ شيئا لم يكن. وأصبح الحديث عن أصحاب الحق والاستحقاق والإقرار بأفضلية من تصدوا لنظام بن علي نوعا من الهرطقة والتباكي الممجوج في زمن قد يصحّ وصفه بزمن قلّة الحياء. وقد شكّل اغتيال شكري بلعيد ثم محمد البراهمي بعد التشهير بهما وشيطنتهما، وكذلك شيطنة الإتحاد العام التونسي للشغل، وهم جميعا علامات بارزة في مقاومة الاستبداد وإنجاح الثورة، منعرجا حوّل النّكران والجحود إلى مسار دموي مافيوزي لتصفية الإرث النضالي وإحالته على المعاش بدعوى نهاية مهامّه، وهمّش المناضلون ووقع إأقصاؤهم من المنابر ومواقع القيادة. ولا نستغرب أن يقع استصدار قانون يجرّم ذِكرالرصيد النضالي أو التضاهر به في المجال العام. 

وسط التعتيم المُمنهج والإقصاء تبحث عن بريق أمل وتجده، من حسن الحظ، في صمود العديد (مانيش مسامح، بعض منظمات المراقبة والشفافية، حملات مواطنية على غرار جمع الكتب للمساجين، نشر ثقافة مقاومة، بعض المبادرات الفنية والعلمية، قلّة من الساسة…). كلّها تصبّ في مقاومة التزييف وإعادة التموقع التي طغت على البلاد والعباد.  بالإمكان التركيز على بعض الوجوه والأسماء والمنظمات والأعمال المعروفة، وهم جديرون بذلك، ولكنّي خيّرت في هذا المقال الإعتراف بالجميل إلى بعض ممّن آمنوا بشعار "الصغير جميل" وبأنّ تغيير الناس فردا  فردا ممكن، محاولا تثمين نماذج ممّن لم يسعوا إلى البروز الشخصي وعملوا في صمت وبأيمان. ومن الصعب أن تجد هؤلاء على الشاشات وصفحات الجرائد وأغلب التونسيين لم يسمعوا بهم وبأمثالهم أبدا. سوف اذكر ثلاثة أشخاص فقط، جاؤوا جميعا من مدينة سمّاها الكاتب محمد الحيزي بمدينة النسيان والدهشة، وأعني بها القصرين، مدينة المفارقات العجيبة. 

علي

لم تعرف القصرين لعلي غير وجه واحد، ليس له سواه. لم يساوم ولم يهادن ولم يتخلّف عن أي تحرّك أو احتجاج منذ كان تلميذا. ولايزال يستعدّ للتدريس، بعد ثلاثين عاما من التجربة، وكأنّه مُقدم على الدرس الأول، يحدّثك عن تلاميذه الصغار وكأنّهم عصافير حديقته. وعلي يعرف كلّ من كان وكيف أصبح،  وتعود اليه حين تفقد البوصلة ويتبدّل الناس ويتقلّبون ويتلوّنون، في مواقعم من سياسة المدينة والبلاد. كما تعود إلى علي في نقاش كتاب شعر أو رواية جميلة بعيدا عن أحاديث الكرة والكسب والمال. وعلي لم يكسب سوى أجرة المربّي ، ولكنّه يجوب المدينة، على عادته، "مرتفع القامة يمشي". غريبا عن حاضر ربّاه على يديه، وحين كبُر واستوى تنكّر له وتناساه. علي "مٌهرة الريح" ، كما قد تكون سمّته أخته الشاعرة، به جموح المُهرة وقلقُ الريح ولكن بوْصلته لا تتمايل ولا تتبدّل.

محمد الطاهر 

وانت تمرّ بحديقة المدينة ، حديقة لا تتبيّن منها إن كانت في حالة بناء أو في حالة تهديم، تماما كما المدينة من حولها، في بعض الأماسي، قد يشدّ انتباهك جمع من الشباب، نساء ورجالا، يقفون في صمت يرفعون لوحات ورقيّة كُتبت عليها شعارات أو آراء ضدّ المصالحة حينا، ومشهّرة بالفساد حينا آخر، أو عبارات من دستور تونس الجديد… مرحبا بكَ في "ركن الخطباء" بحديقة لا تكاد تكون ركنا صغيرا من حديقة هايد بارك اللندنية التي اشتهرت بركن حرية التعبير. أنت في حضرة محمد الطاهر ورفاقه من جمعية أمل وأصدقائها. قد تكون رأيت محمد الطاهرمن خلال الفلم الوثائقي "المعارض" ولكنّك لن تجد صعوبة في التعرف عليه: أسمر، نحيل، دائم الحركة والابتسامة والتدخين. كان، بشهادة الجميع، إلاّ من جحد، في الصف الأول للثورة الدامية بالقصرين ولم يزل. وكان من أصحاب الشهائد العليا المعطلين عن العمل ولم يزل. هو أحد البُناة البنّائين، يحدّثك بحماس عن "روعة" الجيل الجديد بفخر وبراءة من ّ مشاريعه حِلمة ، ويلومك على التقصير في مدّه بأفكار جديدة ولا يعاتبك أبدا إن تراخيت او ضعف إيمانك بثورتك فالإيمان بالثورة يكاد يكون "مهنته الجميلة" على حدّ تعبير لمحمود درويش في وصف أمّه. 

سي الازهر

زرتُ منذ أيام مدرسة تقع في سفح جبل الشعانبي مباشرة على طريق شهدت الذبح والآلام والقتل المفاجئ وأصبح دويّ المدافع وأزيز الطائرات الحربية أقرب إلى تلاميذها من صوت الآذان والأناشيد والأغاني . هناك، في مدرسة جمهورية بُنيت سنة 1959 نتاج حلم الدولة الصاعدة، "على جبل حزيز نباته من إبر"، على حدّ تعبير صاحب كتاب السُّد ووزير التربية آنذاك، قُرب عين ماء يباركها وليّ صالح قصدها الفقراء للتبرّك والإستشفاء عاما بعد عام. كلّ شيء حول المدرسة يوحي بالإحباط والإستسلام لقِسمة الجغرافيا  وظلم التاريخ الذي عمّ المنطقة بأسرها.  تدخلُ مدرسة بولعابة صحبة مديرها، والحال صيف، فلا تلاميذ ولا معلّمين، من باب أزرق وسور عال يحجبها عن الناظر العابرفتصيبك الدهشة: مسرح وملعب وأشجار مثمرة وكراسٍ متناثرة و مكتبة عامرة وقاعة للإعلامية وإذاعة تلمذية ونواد للسينما والغناء ورسوم خطّ عليها التلاميذ مقاومتهم اليومية للخوف والترهيب بالإبداع.  قُمْ للمدير والمعلم، سي الأزهر، وفّه التبجيلا واعترف له، ولغيره من العاملين الحالمين، بالجميل زمن الجحود الوبائي الذي يكاد أن يأتيَ على أحسن ما فينا ومن فينا.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.