لعل من أهم ما أنتجت ثورة 2011  ما يمكن تسميته بتحرير المبادرة الفردية  بقطع النظر عن نتائج المبادرات وتمكينها. المهم أنّ المبادرة أصبحت ممكنة وقد رأينا أمثلة عديدة على ذلك مسّت جميع جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية. بل لعل تحرر المبادرة هذا يعد أحد أمراض  المشهد الحالي إذا ما نظرنا إليه من زاوية مساهمته في تشظي المشهد وصعوبة التجميع التي تبقى التحدي الأهم في أي مسار يصبو إلى التأثير والبقاء.

والواقع أنّ تفسير ظاهرة الخوصصة ليس عسيرا. فالركيزة الأساسية له تكمن في المرور من مرحلة الغياب التام لإمكانية الفعل الفردي واحتكار القرار والوسائل من طرف رأس السلطة أو القلة المتنفذة إلى تحلّل هذا الاحتكار تماما في مرحلة أولى والتعدّد المفرط في مرحلة ثانية.ّ بل لعلّ مقولة الخوصصة تفسر عمق التغيير من عدمه. فالثورة حافظت على كلّ ما كان خاصا قبلها، إذ لم يقع أي تغيير في الإقتصاد مثلا، ودعّمت كلّ ما هو خاص وذلك بإنهاك المرفق العمومي والمؤسسات العمومية ، ولعلّ في الصعود المكّوكي للتعليم الخاص في جميع المراحل منذ 2011 مثالا واضحا على ذلك. 

ففي المجال السياسي، نجد في المشهد الحزبي التونسي خير مثال على ما أقول. ولعل ما يسمى بالسياحة الحزبية عنوان بارز له. فالجميع يعرف تجاوز الصلاحيات وخرق للدستور وغيرها. لنتأمل فقط في سياحات السيد خالد شوكات ورحلات العديد من مناضلي ما كان يسمى بالحزب الديمقراطي التقدمي وتجوال نواب العريضة الشعبية وتنقلات نواب نداء تونس في مجلس الشعب،وغيره كثير.  أما في مجال السلطة التنفيذية فسوف اقتصر على مثالين. يتمثل الأول في الحكومة، إذ من البديهيات أن تقاد الحكومات بمبادئ التضامن الحكومي الذي يعني التزام أعضاء الحكومة بجماعية القرار والانخراط في التنفيذ. والجميع يعرف أنّ ما يميّز الحكومة الحالية هو الانفراد بالوزارة وإدارتها كجزيرة معزولة عن غيرها وحتى في علاقة تنافسية مع غيره من الوزراء، والأمثلة عديدة نذكر منها وزراء التربية والصحة والإستثمار الخارجي والتجارة. ولا وجود لاحترام القيادة الحكومية أو المصلحة العامة وغيرها. الأمر الثاني يتعلق بمبدإ خوصصة مجالات الاختصاص التي ينصّ عليها الدستور وما نتج عنه من تجاوز وخروقات واضحة، منها أن رئيس الدولة اعاد صياغة سلطة الرئاسة حتى تناسب طريقته في الحكم واهدافه الخاصة . فرغم الخرق الواضح لا يزال رئيس الجمهورية يعين رئيس الحكومة ويعزله، ويترأس حزبا بطريقة غير مباشرة وغيره وهو نوع من أنواع الإنتصاب الفوضوي من قبل رئاسة الجمهورية في فضاءات غير مرخص لها فيها، وإنما حوّلتها إلى فضاءات خاصة، عائلية أحيانا وحزبية وسياسية أحيانا أخرى.

أما على مستوى الحراك الإحتجاجي والسياسة التي تقدم نفسها على أساس أنها بديلة، فمن الملفت أن نتأمل في الحزيْبات وإعادة تفكيكها وتوزيعها ممّا لا يخضع إلاّ إلى متطلبات الشخصنة والتذييت، فهي جميعها غير ديمقراطية بمعنى أنّ القيادات غير منتخبة وقواعدها غير واضحة وقد لا تكون موجودة أصلا. فمن من التونسيين لا يسمي الأحزاب بأسماء رؤسائها أو شخصيات بارزة فيها: حزب المرزوقي وحزب محسن مرزوق وحزب سامية عبو وحزب الهاشمي الحامدي الخ. ولا تختلف في ذلك الأحزاب المكوّنة للجبهة الشعبية عن غيرها، فعوض اتخاذ النضال الجماهيري الواسع والعمل على التجميع حصرت سلطتها في مجالس وتجمعات لأشخاص تقلّ تمثيليتهم ويتناقص التصاقهم بهموم الناس يوما بعد يوم. أمّا حركة النهضة والتي اشتركت مع غيرها من الأحزاب في سلعنة السياسة فقد أضافت إلى ذلك التخصّص، ممّا جعل الدين في حدّ ذاته يتحوّل إلى ملكية خاصة تتصرّف فيه الحركة كما تشاء و"تصرفه" في أسواق الخليج العربي حينا وفي أمريكا أحيانا أخرى… 

أما في ما يخص الشأن العام فالظاهرة الأبرز هي خوصصة الفضاء العام، من احتلال الأماكن المخصّصة للمارة من طرف الباعة إلى البناء الفوضوي، مما أصبح القاعدة لا الإستثناء عبر جميع مدن البلاد وقراها. كما حوّل العديد من الشوارع إلى مرابض للسيارات والشواطئ إلى مسابح خاصة. حتى أنّ استعمال الطريق مثلا أصبح يشبه الاعتداء على الملكية الخاصة لمن رأى في نفسة القدرة والقوة على "افتكاك" الأولوية أو مساحة أكبر من غيره….

والمسألة ليست كلهاّ سلبية، حسب ما قد يتبادر إلى الذهن. فالعديد من المبادرات والتحرّكات الإيجابية التي أثّرت في تونس بعد الثورة يقف خلفها أفراد آمنوا بقدرة الفرد على التأثير نظرا للانفتاح النسبي لمجالات القرار والفعل. والأمثلة على ذلك كثيرة وقد ساهم الإعلام المفتوح وخاصة وسائل الاتصال في العالم الافتراضي في إبرازها وتفعيلها. ولكن المبادرة الشخصية لا تصنع دولا ولا بدائل لنمط اجتماعي بأسره.

خوصصة الضمائر هي إذن جزء من مسار عام غابت فيه جماعية القرار ومؤسساتية السلطة ولم تجد ما يعوّضها. وبما أنّ الضمائر لم تسلم من قدرة النظام السلطوي على تخريب الوعي الفردي  وإفساده فقد تركّزت الخوصصة في المعنى السلعي الذي يخضع إلى قوانين السوق دون سواها فأصبح الضمير، كغيره، بضاعة خاصة للتبادل الحر وأصبح للضمائر أثمانها وفي شرائها وبيعها يتنافس المتنافسون. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

** أستاذ بجامعة اكسفورد بالمملكة المتحدة

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.