حصان الثورة الجامح الذي انطلق من تونس و طفق يحفر الأرض مهرولا هنا و هناك حتى عتبت حوافره شارع "ولستريت" في نيويورك التي أعادت العالم في لحظة إلى اللغة العربية رافعة شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"..حصان الثورة توقف ذات لحظة ليتحول إلى حصان من حجر اصفر اللون يحاكي لون الصحراء..

يركب عليه حصان آخر أقـل حجما في لون بني آخذ إلى الحمرة و هو النهضة الإسلامية، الذي هو بدوره تمثال حصان في الوقت الذي رآه البعض كائنا حيا. فالثورة ليست ثورة الشريعة الإسلامية.

حصان النهضة ركب عليه حصان آخر اصغر حجما ذو لون اسود، و هو الآخر ليس إلا تمثالا. فالثورة ليست لبعث "بورقيبة" من جديد.

الحصان الأسود يركب عليه حصان آخر احمر اللون و هذا اللون يحيل إلى الجبهة الشعبية، و الثورة ليست ثورة البروليتاريا ضد البورجوازية..

ركبت هذه التماثيل على تمثال الثورة في اللوحة. اللوحة صورة تحاكي الصورة عن الثورة في الوعي. الوعي الثابت الذي يريد تـثبيت الأشياء و بالتالي يحولها من نطاق الفكرة إلى نطاق الأشياء. وُجد الفن ليوقف مجرى الزمن و لكن الزمن لا يتوقف..

حصان الثورة و الركوب على الثورة هي كلمات يتم تداولها في الوعي العام.. يتم كذلك فعل التماهي بين الشعب و الثورة فيكون الراكب على الثورة راكب على الشعب.. الركوب و الامتطاء ذات دلالة جنسية كذلك.. المفعول به جنسيا كثورة و شعب هو محل احتـقار إذن بحكم الثـقافة الذكورية العامة و ثـقافة التحريم للجنس و قمع الجسد.. المهم انه يتم استعداء الثورة باعتبارها مكمن الاهانة..

تـنعكس هذه الرؤيا مباشرة في تـقيـيم اخلاقوي و لكنه يعبر عن مطلب أخلاقي من الثورة. الركوب على الثورة بما هو نفي لها و باعتباره ثورة مضادة إذن هو الإحساس بضياع المعنى الأخلاقي للثورة..

هذه النظرة بالضرورة تضع نفسها مقابل نقيضها. النقيض كان في الأشهر الأولى للثورة. بدءا من المظاهرات و المسيرات الشعبية التي أسست للحالة الثورية الانقلابية على تمثال الدكتاتور. كانت تلك فترة إحساس عارم بالكل و تضامن الكل مع الكل. انـفـتحت الذوات على نفـسها مبتسمة متحمسة بشعور دافئ عـذب في القلب. الدكتاتورية تحجب رؤية الناس للناس و رؤيتهم لأنفسهم، لان بقائها رهين باستلاب الذوات مباشرة أو بصفة غير مباشرة يقف فيها الخوف من الفضاء العام الذي يتسرب إلى الخوف من الذات و بالتالي طمر الذات و الآخر..كانت تلك لحظة التماس مع الذات و الآخر المشابه و بالتالي الذات في الآخر..

شعور التماس الذاتي مع الله. تضامن الشعب في الدفاع عن البلد من خلال الدفاع عن مناطقه من القـناصة.. في الغياب التام للشرطة انعدمت حوادث المرور و تـنظمت حركة المرور و اُحترمت الإشارات المرورية و تم توزيع الخبز بدون مقابل و اللحوم و الخضر.. الحالة هي حالة حب كلي فقد انعدمت جميع مظاهر الشتم و العراك بين الناس.. الحب الرابط بين الجميع.. الكل في لحظة تجليه المتماسك..

ولكن تلك اللحظة الكلية من المحبة بقدر ما أعادت الأفراد إلى صميم وجودهم الكلي وطنيا، بقدر ما كانت شبه مجردة أي ليست واقعية. لتكون واقعية كان لابد لها من التعين في الواقع. هذا التعين هو بالضرورة تـقدم نحو التـناقض مع الوحدة المجردة الأولية. وما يقاس على الجماعة يقاس على الفرد. فحسب الفيلسوف الألماني هيغل فانه، هيهات لأي موجودين أن يحب الواحد منهما الآخر إلا إذا عارض الواحد منهما الآخر، ليتسنى للواحد منهما أن يضل محتـفـظا بوجوده "خارج" الآخر و في نفس الوقت يرتبط وجوده بوجود الآخر.. فحسب "هيغل" "لابد للبذرة من أن تموت في باطن الأرض حتى تنبت البذرة".

والدولة حسب "هيغل" تمثل روح الشعب على نحو ما تتجـسد في آثار فنية و سياسية و دينية و فكرية. "لابد لهذه الروح من أن تصبح باطنة في أعماق أفراد الجماعة، حتى يشعر الإنسان بان الجماعة التاريخية التي هو عضو فيها إنما هي ذلك "الكل" العضوي الذي لا قيام له بدونه"..

وهنا نجد المطالبة بإرجاع هيبة الدولة تـتم مجابهته بعدة صفعات مدوية. ذاك أن الدولة ليست مؤسسات و سلط سياسية، فهذه جسد الدولة و ليس عـقـلها. الدولة التونسية اليوم فاقـدة للعقل و بالتالي فاقدة للإرادة. هذه الحالة لا تعود فقط بالنقد السياسي المباشر لأي حزب، و إنما في عمقها تعود إلى حالة التشضي التي استحال إليها الكل الوطني. الكل الوطني الذي يبحث عن وحدته التي تجسدت في عاطفة المحبة، و العاطفة بدورها هي أفكار غامضة لم تـتوضح بعد.. و بما أن الإنسان وعي بما هو تمثل إدراكي و مفهومي و عقلي للعالم، فان وحدته تائهة لعدم وضوح المفاهيم الضرورية في هذه المرحلة التاريخية..

ومن هنا فان الاعتـقاد في الحل السياسي هو قصور في الفهم و بالتالي قصور في الواقع. فالسياسي جزء من الروح الكلي للدولة. السياسي الثوري إلى حد الآن أكثر ما يعبر عن نفسه في الاحتجاج و الرفض. 
فالواقع التونسي لم ينجز ثورة و إنما بدأ في انجازها. انه مخاض الثورة و ليس الثورة. هذا المخاض برزت فيه أسماء في الفكر و السياسة. إنها إرهاصات ثورة في الفهم الديني و ثورة في الفكر من حيث كونه يبدأ في نقد الذات الفردية و الجماعية، و ثورة فنية بالكاد نرصدها و لكنها بالضرورة كائنة و ستكون..

وبما أن الوعي بالأشياء يحددها بوضوح و يسيطر عليها و يستعملها. فان القصور على السياسي سيجعل الدولة عرجاء حتى و إن صعدت القوى الثورية إلى السلطة. فالفاعل الإعلامي المسئول و الجدي و الفاعل الفكري و الفني و الفاعل في مجال النقد الديني للتهديم و إعادة البناء و خاصة هنا في الباب الذي فتحه الدكتور "محمد الطالبي" في الإسلام القرآني.. هذه الإرهاصات لو تكتل نـفـسها في شكل مدارس أو تيارات تعبر عنها عدة عقول.. هي وحدها الضرورية لبعث روح الثورة ليس في ذاتها فقط مثلما تجلت في لحظتها البدئية و إنما لذاتها أي كوعي بما هو جملة مفاهيم و أفكار تـنـتـشر و تـترسخ في الواقع..
من هنا يكون للكل روح متجلية يمكن للدولة أن تعبر عنها بما هي تعبير عن لحظتها التاريخية..فالروح هي وعي بالذات مثلما يقول "هيغل". و بواسطة هذا الوعي فقط تـترسخ المحبة و التضامن و الوحدة الحقيقية التي على أساسها نفتح صفحة جديدة في التاريخ الإنساني..

وبالتالي فلوحة التماثيل من الأحصنة المتصاغرة الراكب احدها على الآخر بقدر ما تحيل إلى التوصيف المباشر للسياسي، بقدر ما تـفـتح الولوج فيما لا تلمح إليه مباشرة. أولها أنها حولت الأشياء إلى تماثيل، و حين نرفض مبدأ تـشييء الثورة باعتبارها روحا فانه تـنـفتح أمامنا رؤى الفكر الكلي العميق الذي لا يظهر على السطح خاصة و أن السطح أمواج متلاطمة.. 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.