بيدي لا بيد عمرو…

يكابد المواطن التونسي للعيش بين متناقضات رهيبة في ظل أزمة اقتصادية خانقة تفقده تدريجيا الأمل في تحسن أوضاعه المعيشية. إذ يلاحظ مذهولا الإخفاق الجلي للنخبة السياسية المعهود لها تسيير البلاد في اقتراح الحلول المناسبة ومع ذلك تركيز البعض الجهد والوقت بصفة متواترة لطرح حلول لمسائل لا تطرح إشكالات أساسا ولا تشكل بالتالي أولوية. فلا أحد يعتقد جديا بأن توسيع صلاحيات الرئيس مسألة مصيرية، رغم محاولات بعضم الإيحاء بأن تحسن الأوضاع مرتبط بإسترجاعه سلطاته "المسلوبة".

ولكأن المشكل لا يتعلق بالأساس بمن يحكم وإنما فقط بشكل نظام الحكم. فمع اعتراف الكثيرين بأن لنظام الحكم النابع عن الدستور الجديد بعض الإيجابيات، إلا أنهم يقرون كذلك بأنه نظام قائم أساسا على سطوة الأغلبية في البرلمان.

مما يجعل من يُنتخب لرئاسة الدولة أو الحكومة رهينة لدى الحزب أو الأحزاب التي تشكلها. يستخلص من ذلك، أنه من الطبيعي أن تتعمق أبسط الأزمات طالما يسمح هذا النظام واقعيا بافتكاك قيادات الأحزاب الحاكمة لسلطات المنتخبين الدستورية.

فالمشكل في الواقع لا يتعلق إذن بتقوية صلاحيات الرئيس، بقدر تعلقه بسطوة أحزاب وتسلطها وتكبيلها للسلطة التنفيذية ممثلة في الحكومة وإضعافها لها. وفضلا عن سلطة الرئيس المحدودة فعلا، فإن ضعف الحكومة ليس نابعا من اختيار خاطئ لتركيبتها في الزمن الخاطئ فحسب وإلا فلن يكون علينا سوى تغيير الحكومة لتنفرج الأوضاع. فغياب البرامج والمشاريع له دوره كذلك، وحكومة مشكلة من خليط عجيب لأطراف لا كفاءة لأغلبها ولا جامع بينها سوى القدرة على انتاج الرداءة لا يمكنها أن تغير شيئا. وتبدوالرداءة قاسما مشتركا بين أغلب أطياف الطبقة السياسية.

لذلك يعتقد جزء منها اليوم بأنه ليس من المهم وضع حلول عاجلة لوقف التقهقر العام في جميع المجالات وإنما افتكاك سلطات جديدة للرئيس. ليكمن رهان المرحلة المقبلة الأهم في الانتصار في معركة تعديل توازنات النظام السياسي الهجين الناجم عن دستور الجمهورية الثانية ولكي ترفع جميع العقبات أمام الاهتمام بمشاغل التونسيين الحقيقية. لا يبدو النظام السياسي الحالي رغم مساوئه عائقا أمام الفعل والإنجاز متى توفرت النية والإرادة والبرامج.

ومسألة تعديله وتغيير توازناته وإن كانت مسألة شديدة الأهمية والخطورة وواجبة الطرح في المستقبل، إلا أنها لا تعني المواطن بقدر ما تهم بعض أهل الحكم. فلا يبدو أن مؤسسة رئيس الحكومة المحتكرة لأغلب الصلاحيات التنفيذية هي موطن الخلل وسببه الوحيد.

وحتى إن سمح لرئيس الجمهورية بالقضم منها فإنه لن يقدر على أن يفعل شيئا كثيرا لتغيير الأوضاع. قتنقيح الدستور لن يخلق لمؤسسة الرئاسة صلاحيات مستحدثة غير متوافرة طالما أن الصلاحيات موجودة ولم يتحقق بها شيء يذكر.

ومسألة نقلها من مؤسسة إلى أخرى لن يغير من الأمر شيئا خصوصا أننا لسنا أمام وضعية "تعايش" بين أطراف متنافرة. فرئيس الحكومة ليس ببعيد عن رئيس الجمهورية ولا برافض لتطبيق ما يشير له به ولكنهما عجزا عن تحقيق الإنجاز الذي يأمله التونسيون لافتقارهما للبرامج. فالمسألة لا تتعلق في الواقع كما أسلفنا بشكل نظام الحكم ولا بسلطات هذا أو ذاك فحسب بل بطينة من يحكم.

والواقع أن لا إصلاحيين ولا رجال دولة متفوقين صلب المشهد السياسي اليوم بل أناس عاديون. وهؤلاء يحكمون مجتمعا شابا لا يفهمونه وكانت للمصادفة التاريخية البحتة أن صعّدتهم إلى مختلف مواقع المسؤولية. ومثل هاته النوعية من الحكام لا قدرة لها على الإبداع ولا جرأة لها في اقتراح الحلول ولا يهمّها متى اكتشفت عجزها إلا المحافظة على المناصب أطول فترة ممكنة.

وربما لذلك يتحول الحكم الدائم في وطننا دوما إلى حكم "تصريف أعمال". عموما لا يمكن لعاقل أن يرفض إصلاح ذلك الدستور والنظام السياسي الهجين المنبثق عنه والذي فُرض علينا لتشتيت الدولة وتوزيع قطعها المتناثرة بين أقوياء اللحظة. إذ أن نظام الأحزاب هذا يساهم في مزيد تسميم الحياة السياسية ويجعل الحكم رهين للمساومات والخلافات الحزبية الضيقة، وهو على كل حال نظام فاشل غير قابل للحياة ولا يلائم الوضع التونسي.

لم تتبق سوى فترة قصيرة نسبيا على الانتخابات الرئاسية المقبلة، ويمكن لرئيس الجمهورية إن كان فعلا غير معنيّ بتدعيم نفوذه فحسب ولا تهمه غير المصلحة الوطنية العليا. أن يبادر وعوض عن المراوغات المكشوفة وبوصفه ضامنا لسلامة الوطن واستقراره ولنجاعة مؤسساته إلى "قتل" نظام الحكم العقيم هذا بنفسه ما دام أقر بحدوده، و"بيدي ولا بيد عمرو". فيدعم بذلك إدخال تغييرات جوهرية على الدستور تهدف إلى تخليصه من جميع شوائبه وتناقضاته التي أثبتها التطبيق.

وقد يكون من بين التغييرات التي يجدر اقتراحها انشاء نظام رئاسي يخضع فيه رئيس الجمهورية لرقابة مشددة من البرلمان. على أن لا يستفيد منها هو شخصيا طبعا وذلك بأن يتعهد بعدم الترشح مرة ثانية وبأن تدخل حيز النفاذ مع بداية فترة رئاسية جديدة. فيكون له فضل كبير عندئذ في إنهاء مهزلة النظام الحالي الذي شتت السلطة وسطى عليها. ونزعها من أصحابها الحقيقيين المنتخبين وجعلها في الواقع ملكا مشاعا بين أطراف غير منتخبة شعبيا ولم يتم حتى انتخابها داخل أحزابها. فلا صفة لها ولا مسؤوليات صلب الدولة ولا علاقة لها بها ولكنها ترتهنها وتطّلع على أدق أسرارها وتتحكم في مؤسساتها وفي مستقبل وطن كامل لمجرد أنها تقود أحزابا مشاركة في الحكم.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.