انتخابات الزمن الرديء..

يتحدث الجميع عن الانتخابات المقبلة وكأنهم يتحدثون عن حفل نهاية السنة. إذ يبدو أنه من المهم إنهاء الأمر سريعا مع الحفاظ على المظاهر بنصب شبه ديكور وإقامة الحفل لتوزيع الجوائز على الفائزين. ولا يهم عندها إن كانوا نجحوا بالمحاباة أو الغش أو الرشوة أو العنف أو المساعدة الخارجية أو بتواطئ الإدارة.

ولا يهم إن أحس شعبنا العظيم بالضياع عندما يستمع لبعض السياسيين والإعلاميين وهم يلخصون له محطة مهمة كالانتخابات في بعض المواضيع الهامشية. فالأصل في الأشياء في الدول المتحضرة أن الانتخابات مناسبة مهمة لاستشارة الشعب وتمكينه من اختيار ممثليه لتحقيق التداول السلمي والدوري على السلطة وتكريس الديمقراطية على أرض الواقع.

ولكي تنجح الانتخابات لا بد من احترام شروط دنيا تضمن أن تكون فعلا حرة وتعددية ونزيهة وشفافة وديمقراطية. أما الأصل في الأشياء في دول تعيش مراحل انتقالية صعبة كدولتنا فهو تفادي تكرار إخلالات بديهية تؤثر على سلامتها وتقلل الثقة في نتائجها وتؤدي إلى انعدام الاستقرار وتعاظم المخاطر المحدقة بها من كل جانب.

ولا يمكن أن يتم ذلك منطقيا بغير الشروع في عملية تقييم جدية لتجاربنا الماضية لنتمكن من فرز الغث من السمين وتحديد نوعية الأخطاء ومكامنها لإصلاحها وسدّ أية ثغرات تؤثر على نتائج الانتخابات المقبلة ومصداقيتها. يشعر كثيرون بوجود خلل ما في هذا الإطار، حيث أن جميع الإشكاليات التي حذرنا منها وبينا أثرها السيئى انتخابات سنة 2014 تم التغافل عنها ولم يتم وضع الحلول المناسبة لتفاديها.

فنحن إزاء طبقة سياسية معصومة من الخطأ لا تخضع للمراقبة ولا للمساءلة والمحاسبة ولا ترغب في فتح أي من الملفات المحرجة لها أو لغيرها. إذ لا تفكر في غير ما يتيح لها ردم النيران تحت الرماد وتحقيق مصالحها التي لا تتوافق بالضرورة مع المصلحة الوطنية العليا.

فهيئة انتخابية دأبت على الاستهتار بالقوانين علاوة على ثبوت افتقارها للإستقلالية والحياد بحكم تركيبتها المبنية على المقاسمة الحزبية وبحكم ثغرات القانون المنظم لها لا يمكنها إدارة انتخابات نزيهة. إذ أن نزاهة المسارات الإنتخابية لا تتماشى وانعدام الشفافية ومع طمس واخفاء مسائل جدية من قبيل سوء أداء الهيئة وخرقها للقوانين وشبهة اهدارها للمال العام والإخلالات التي شابت تحكمها في سجل الناخبين. أو من قبيل التغاضي عن الخضوع للأقوياء وتفاقم استعمال المال السياسي الفاسد وعمليات شراء الأصوات وغيرها من المواضيع التي تتطلب اقتراح الحلول المناسبة.

فمن الغريب مناقشة موضوع الانتخابات بغياب أي إقتراح بإجراء عملية تقييم شاملة للتجربة الانتخابية التي تمت خلال سنة 2014. ويبدو أن لا أحد من السياسيين يهمه اليوم معرفة حقيقة تكلفة انتخابات 2014 رغم صدور تقرير الهيئة الغامض، أو مصير التزكيات المزورة أو الإجراءات التي اتخذت في حق من تجاوز سقف الإنفاق الانتخابي أو تلقى تمويلا أجنبيا أو حقيقة حرمان أكثر من 3 ملايين ونصف ناخب تونسي من التسجيل أو منع ناخبين مسجلين منذ 2011 من التصويت ولا حتى السرّ وراء رفض هيئة الانتخابات إجراء عملية تدقيق شاملة للسجل الانتخابي من قبل جهة مستقلة لا تضارب مصالح معها للتثبت من سلامته المشكوك فيها.

ولا يهم التونسي العادي أن يصفق الجميع لتوفّق هذه اللجنة أو تلك في البرلمان على صيغة توافقية لفصل لا قيمة كبيرة له فعليا وإن كان يكرس تمييزا ايجابيا لمصلحة فئة معينة بقطع النظر عن معيار الكفاءة. بينما قانون انتخابي كامل يهمش المواضيع الرئيسية ولا يضمن أبسط حقوق الناخب في المشاركة في عملية انتخابية لا تُعلم نتائجها مسبقا. ويتم فيها هضم حقه في تجسيم تصويته على أرض الواقع إلى مقاعد بوضع نظام انتخابي غير عادل لا يهمشه ولا يخدم أطراف معينة حسب حجمها أو سطوتها ويقصي غيرها من المنافسة. ولا يعترف له فيها بحقه في اختيار التصويت الأبيض ولا يضمن عدم التلاعب بالانتخابات وبصوته وتوجيهه الوجهة التي يريدها المتحكمون.

أصبحنا نشك جديا في أنه يراد لانتخاباتنا أن تتحول لمجرد فلكلور بعد أن كانت لعشرات السنين مأتما جماعيا لكرامتنا وحرياتنا. فالجميع يعلم مكامن الخلل ولا أحد يريد الإصلاح. ولكأنّه يراد للانتخابات أن تتحول في عرفنا إلى عملية يغلب الشكل فيها الجوهر والجدوى. فلا رهانات أساسية فيها غير التناصف الأفقي والعمودي ومشاركة المرأة الريفية وبين المدن والمساجين والمجانين وغيرها من المواضيع الثانوية التي ما ان تحققت حتى عاد مجتمعنا المدني واعلامنا لممارسة حياته العادية. وهي مواضيع مهمة ولا شك متى تحقق الجوهر، أما أن نلخص الانتخابات فيها ونعتبر أننا تقدمنا متى حققناها فذلك مما يستعصي على الفهم والإدراك.

لا يمكن أن تصبح غايتنا وأقصى مرادنا في هذا البلد إجراء الانتخابات كإجراء شكلي في موعدها لإرضاء الممولين وأولوياء النعم الغربيين الذين يعشقون مثل تلك المواضيع ويدفعون بسخاء متى تكرست كمسائل مصيرية في حياتنا.

وكأن الهدف من الانتخابات مشاهدة ابتسامة رضى على وجوههم كفيلة بجعلنا فجأة متحضرين نفارق بفضلها فورا عالمنا السادس ونلحق بها ركب الأمم المتطورة. ولا أن تتلخص نزاهتها ومصداقيتها في سرعة استجابة الهيئة لاحتجاج بعض أظرف الملاحظين المختصين في تصيد تأخر موعد فتح مكتب اقتراع بدقائق أو عدم توفير شارات على أقمصة بعض أعوان الهيئة. فالانتخابات عملية ثقيلة ومعقدة وهي أدق وأعمق من ذلك بكثير.

غلبتنا تلك المواضيع الهامشية خلال انتخابات 2014 ونسينا الأصل والجوهر. وهو ضمان مشاركة كافة أطياف الشعب التونسي في الانتخابات وضمان نزاهة وشفافية المسار برمته. وهو ما يفرض علينا اليوم أن نعي ضرورة فتح الملف وتنقيح قانون هيئة الانتخابات واصلاحها جذريا ووضع قواعد جديدة في القانون الانتخابي تضمن تفادي النقائص وتعديل الأمور. ولا يمكننا الإصلاح بدون تقييم التجربة، فبفضل التقييم الجاد والموضوعي يمكننا أن نتقدم وأن نجري انتخابات نزيهة وشفافة من جديد بأيادي وطنية يفتخر الشعب التونسي بها أولا وأخيرا.

فما الجدوى من الإلقاء بمئات المليارات في بطون الأجانب وبعض القطط السمان لكي ننظم كل مرة انتخابات أسوأ من سابقتها؟.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.