اللوز يعيد الغنوشي إلى سيرته الأولى: “النهضة” ووهم فصل “الديني” عن “السياسي”

الرفض المجتمعي الكبير…

الرفض المجتمعي الكبير، الذي قوبل به اعتزام جمعية القيادي النهضوي و زعيم التيار "الدعوي" في الحركة، الحبيب اللوز، الذي خطط لنشاط دعوي بجبل السرج بسليانة، كشف عن يقظة المجتمع التونسي لمثل هذه النشاطات، التي كانت وراء احتكار الفضاء العام، وتجنيد ألاف الشباب وتسفيرهم لبؤر التوتر، خلال فترة حكم الترويكا. كما كشفت عن "وهم" الفصل بين "الدعوي" و "السياسي"، الذي أعلن عنه مرشد "النهضة"، راشد الغنوشي، في المؤتمر العاشر ( ماي 2016).

  في الواقع لم تتخلص "النهضة" من الجانب "الدعوي"، بل أن ما أعلن عنه هو مجرد اعادة توزيع للأدوار لا غير، فرضه الضغط الذي مورس على الحركة، من قبل المجتمع والنخب التونسية، فضلا عن تراجع "الفكرة الاخوانية" اقليميا ودوليا، بعد ضرب الحركة الأم في مصر. كما بين تواصل حيوية "الجسم الدعوي"، من خلال شبكة جمعيات يقودها ويشرف عليها قادة وأبناء الحركة. الحركة لليوم لم تنجح في  تجنّب الشمولية في العمل التنظيمي، وأن هناك ازدواجية تنظيمية ما تزال أكثر تجذرا وأن الحديث عن التخصّص والفص بين السياسي الحزبي والدعوي / الديني، لا تعدو أن تكون مجرد "تقية"، فرضتها اكراهات المرحلة .

ان خيار الفصل بين الدّيني/الدّعوي عن السّياسي، تبين اليوم  أنه لا يعدو أن يكون مجرد فصل إجرائي منهجي لا غير، حيث لم يتم التنازل عن "الدّيني"، الذي تم ترحيله للمجتمع المدني، يعني أن ما أعلن عنه هو  تقاسم للأدوار بين الحزب والحركة، التي ستنشط دعويا ضمن جمعيات "المجتمع المدني"،وبهذا فإنّ غاية الفصل بين الدّعوي والسّياسي، حتمتها ضرورات تنظيمية بالنّظر لتوسّع مشمولات ومجالات عمل الحزب، وليس  قيام حزب مدني وطني ، لا يوظف الدّين في التنافس السياسي، وبهذا فان المشروع سوف يستمر بحلم البدايات، وأن الحركة لن ترفع يدها عن الدعوي. وبهذا يستمر الخلط بين الديني والسياسي، على غرار ما حصل في التّجربة المصرية، عندما تم الفصل بين حزب"الحرية والعدالة" و"جماعة الإخوان"، تجربة فشلت بسبب عدم استقلالية الحزب سياسيا وإيديولوجيا عن الجماعة.

هذا الاستنساخ لتجربة الإخوان في مصر،المتمثلة في بعث حزب يكون بمثابة الجناح السّياسي للحركة،يكشف على أن  المنهج الإخوانى، هو الذي ما زال متحكّما في مسارات وسياسات "النّهضة" في تونس، كما يؤكد على وجود "تنظيم دولي" يحدّد الخطط ويرسم السياسات للجميع، لكل فروعه، المتوزعة بين الأقطار والدول. ان قرار المشاركة والاندماج في النظام السياسي القائم، سبق  الإخوان في مصر إلى تبنيه منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، وبقي يعرف فترات من المد والجزر، كانت أساسا مرتبطة بحالة المشهد السياسي المصري، الذي كان يتراوح بين الانغلاق والانفتاح، خاصة في العلاقة بالإخوان. 

من هنا فانّ  تحرك جمعية الحبيب اللوز، هو  أمر متوقّع ومثل عملية جس نبض أيضا، لكنه بين ايضا  أن سطوة الديني على الحزب،  حتى بعد تسليم "المهام الدّعوية" لجمعيات المجتمع المدني، على اعتبار وأنّ الأشخاص الذين يسيرون الحزب، يحملون نفس الأفكار والرّؤى ونفس "الحلم" أيضا، مع الأفراد الذين أوكلت لهم مهمة بعث الجمعيات، لنشر الدّعوة وحراسة "المشروع الحضاري" للحزب/الحركة.

يتوهّم من يتصوّر أنّ "النّهضة"،  بعد مؤتمرها العاشر،  ستصبح وبقدرة قادر حزبا مدنيا وطنيا ديمقراطيا، وأنّها سوف تتنازل عن مرجعيتها الإسلامية، لتصبح حزبا مفتوحا على غرار بقية الأحزاب الأخرى. فكلّ الشواهد والممارسات تدل وبالعين المجرّدة، على أنّ "النّهضة" ما تزال جماعة مغلقة، لعلّ هذا ما يفسر انحسار تركيبة المنتمين لها، التي ما تزال مقتصرة على النواة الصُّلبة الأولى، التي عاشت السّجون، وعاشت على حلم تنزيل المشروع الإسلامي في الواقع المعيش، الذي هو ممثل في مرحلة النبوة والخلفاء الراشدين من بعده، وهو المكون السلفي للحركة الإخوانية.

فقد كشفت المؤتمرات القاعدية للحركة، بمناسبة المؤتمر الوطني العاشر، عن تهرم "قاعدة حزب النّهضة"، وظهور تراجع كبير في إقبال الشّباب والمرأة. بما يعني أن الطلب على "النهضة" في ضمور، بل أن حتى الكثير من المنتسبين السابقين إليها غادروها، بدعوي خيبة أمل و حتى اتهامات تصل حد "خيانة المشروع"، وحديث عن "سقوط أخلاقي"، مصاحب بفشل سياسي، وهو ما يكشف أيضا عن وجود قطيعة بين "القيادة المركزية" و "القاعدة". هذا دون أن نغفل عن تنوع المنتمين والمتعاطفين مع الحركة، الذين يتوزعون من النقيض إلى النقيض، من" إسلامي ليبرالي" (التيار الذي يتزعم النشاط السياسي العلني) إلى "إسلامي متشدّد" على تخوم الجماعات الجهادية، وهم الأغلبية الساحقة. 

إنّ الفصل بين "السّياسي" و "الدّيني"، عملية معقدة جدا – وتكاد تكون مستحيلة – خاصة في تنظيمات وجماعات عقائدية، تربّت على الحياة والموت لأجل "مشروع ربّاني". وقد كشفت مسارات الحركات الإسلامية، أنّ كلّ "التحّولات" و "المراجعات" هي بمثابة وسائل غايتها ومناها وصول لطريقة مثلى تحقق تنزيل المشروع والتمكين له في الواقع، حتى وإن تاهت بهم السبل. من هذا المنطلق فإنّ إعطاء الأولوية لدى "النهضة" للبعد السياسي، لا يمكن فهمه إلا ضمن موقع "الدعوي" ضمن التحوّلات الجارية، "فاللحظة الحاضرة غير لحظة النشأة، والدّعوي ثبت بالتجربة أنّه عاجز على مواكبة واقع في حالة تحرك مستمر لكن يبقى له دور التعبئة والتحشيد، ورافدا مهما للسياسي لتثبيت الهوية واكتساح كل المواقع الشعبية على مختلف مستوياتها الاجتماعية.

من هنا فإنّ ضرورات "خدمة المشروع" تفرض في ظل التحوّلات الراهنة، التي تشوهت فيها الصفة الإسلامية، بعد أن اختلطت بالجماعات الإرهابية، وبصور التقتيل الذي باشرته الجماعات التي قيل عنها أنّها "تبشّر بثقافة جديدة"، وضع  يفترض تراجع "الدّعوي" لصالح "السّياسي". على أنّه تجدر الإشارة إلى أنّ "الدّعوي" يتم استدعاؤه خلال فترة "المحنة" أو الصّراع مع "الاستبداد" إذ هناك فهم يشير إلى أنّ "سياسة القمع والملاحقة التي سلكتها السّلطة تستدعي الدّعوي في بعض الفترات لتقوية روح الصّمود والنّضال والثبات (…) إلا أن ذلك لا يعني احتلاله لموقع متقدم في التعاطي مع الواقع بل يمكن اعتباره استصحابا للسياسي للاستئناس به في تخفيف الضربات الموجعة".

 مثل هذا الكلام، يشير إلى تداخل وترابط عضوي بين "الدّعوي و"السّياسي"، تداخل يصل حدّ التماهي، ممّا يجعل الفصل مجرّد "ترف فكري" لا غير، على اعتبار وأنّ "المقدّس" يبقي حاضرا وبقوّة في حسم الصّراع مع الخصوم، في فترات السّلم كما في فترات الحرب. فمثلما تم توظيف الخطاب الدعوي للصبر والثبات في "زمن المحنة"، فان ذات الخطاب تم استدعاؤه في "زمن الصراع السياسي"، حيث لاحظنا تنظيم "خيمات دعوية" أثناء الحملات الانتخابية، كما تم توظيف المساجد وخطب الجمعة للدعوة لطرف سياسي و "شيطنة" خصومه، وتقديمهم على أنهم "ضد الإسلام" و "ضد هوية الشعب"، في تناغم وتلاقي مع خطابات الجماعات السلفية المتشددة، التي انتقلت في زمن قياسي من اعتبار تونس "أرض دعوة" إلى "أرض جهاد"، ولاحظنا خلال فترة حكم النهضة (2011- 2013) انفجارا بل "تسونامي" للجماعات السلفية، التي احتكرت الفضاءات العامة، ومارست الترويع على خصومها، قبل أن تشدّ الرّحال نحو الجبال لتحمل السّلاح في مواجهة المجتمع والدولة. 

برز الصّراع بين السّياسي والدّعوي، جليا بعد وصول الحركات الإسلامية للسلطة، بعد ثورات الربيع العربي، وهي فترة كانت قصيرة وخلفت ضريبة ستكون مكلفة لتيار الإسلام السياسي، خاصة لدى ّإخوان مصر الذين انتقلوا من "منحة" إلى محنة" أشد وطأة، من كل "المحن" السّابقة التي مرت بها الجماعة. كشفت مرحلة الحكم عن "أزمة الإسلام السياسي"، الذي فشل فشلا ذريعا في خدمة النّاس بدل وعظهم، وفي تقديم رؤية وبرنامج بديلة للحكم الذي قامت عليه الثورة. وهي أزمة مردها ضعف الخيال السّياسي لدي هذه الجماعات.

من علامات هذه الأزمة في الخيال الفكري والسياسي، لدي التيار الإسلامي، سعي النهضة إلى إعادة استنساخ تجربة الإخوان في الفصل بين الحزب والجماعة، رُغم أنّ " تجربة الإخوان المسلمين و حزب الحرّية و العدالة في مصر أكدت عدم جدوى هذا الخيار. لقد حرّم غياب نظرية سياسية حركة النهضة من الانفتاح الاستراتيجي على التاريخ، وعلى السياسة و ظل سلوكها السياسي أقرب إلى التكتيك، من خلال المراوحة بين الوفاء للنصوص التأسيسية، و الخضوع لإكراهات الواقع الموضوعي.

*المقال يعبر عن رأي كاتبه

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.