الفساد.. أسبابه وكيف نعالجه

لا أعلم لِمَ يدعوني دوما…

لا أعلم لِمَ يدعوني دوما القلم للكتابة والعقل للتحليل … لكن اعلم يقينا أن القلب لا يحمل في أعماقه سوى الإيمان بالله وحب تونس . وإذا أصبحت أتحدث على هذا فلا بد لي أن أكون مقتنعا بما أتناول من قضايا واطرح من تحليل يشرح أدق التفاصيل … تناول يتخذ من الحياد منهجا ومن الإصلاح هدفا.

وهنا لا بد لي أن أقول أن الحياد نوعان ، السلبي والايجابي وبالطبع دوما أتسلح بالثاني . وهو الحياد الذي لا يفترض السكوت لا على أخطاء الحاكم ولا على زلات المعارضة . هو أيضا الحياد الذي يقر بايجابيات الحاكم ويدعم التوجهات الصائبة ، وهو الحياد بذاته الذي يدعم معارضة قوية تقدم البدائل وتكشف نقائص السياسات الحكومية . ومن هنا ، لا بد و أن أذكر أن جمال عبد الناصر و تيتو و شوان لاي قد اتخذوا من سياسة الحياد الإيجابي منهجا في الوقوف من نفس المسافة -ظاهريا- من المعسكرين – أمريكا والاتحاد السوفياتي – الذين تصارعا تصارعا رهيبا .  

وانطلاقا من لمحة خصوصية حول مقالاتي تخللها الحديث عن حيادي الإيجابي تجاه الأطراف الداخلية في وطني نحو الحديث حول سياسات دولية تاريخية ، ها أنني إزاء العودة لميدان الإصلاح . تونس التي عاشت مؤخرا حديثا متواصلا حول الفساد الذي ينخر مفاصل الدولة، مجتمعها ونخبتها، ميادينها الاقتصادية والسياسية.    

لقد انتشر الحديث عن ظاهرة الفساد بشكل غير مسبوق هذه الظاهرة  التي أضحت هاجسا يؤرق الحكومات المتعاقبة يعد الثورة . فاستشراء الفساد أضحى عائقا أمام ازدهار الاقتصاد. إنما ظاهرته ليست بالنادرة بل عالمية وقد أضحى مصطلح الفساد وصفا  دقيقا لسرطان خبيث يصيب عضوا من الجسم وما يلبث إلا أن يصيب كافة أعضاء الجسم وتصبح عملية استئصاله اقرب للمستحيل .   ولنذكر عدة مظاهر للفساد في تونس ، في مختلف الميادين وفي الإدارة التونسية أيضا . مظاهر أكبرها الرشوة في القطاعين العام والخاص والاختلاس والمتاجرة بالنقود وإساءة استغلال الوظيفة والاستثراء الغير مشروع وتبييض الأموال وكذلك العديد من أوجه الفساد . وبالتالي فالفساد بلا شك هو انحراف بالسلطة الممنوحة بغية تحقيق مكاسب غير مشروعة أو قانونية لفائدة الشخص بعينه أو أي شخص قريب منه اوعلى علاقة به.

إن الفساد استشرى في ظل غياب عدة أشياء أو تواجد بعضها كذلك . فسياسيا ، انتشار الفساد يعود لضعف الإرادة السياسية التي تحارب وتقاوم كل مخالف للقانون ومتجاوز لتشريعات الدولة . هذه التشريعات التي يجب على الدولة تصليبها وافعامها برزمة تشريعات أكثر ردعا و تفعيل لإجراءات الوقاية من الفساد في سبيل جعل المواطن أكثر خوفا من تجاوز القانون ، هذا المواطن الذي يمكن أن يكون حاكما ، أو مواطنا عاديا أو موظفا … لقد استشرى أيضا الفساد في ظل ضعف الدور الرقابي من قبل الدولة والمجتمع المدني والتشهير الايجابي الذي يمارس من طرف وسائل الإعلام في كشف ملفات الفساد بغية الحد منها وإصلاحها . ناهيك عن أن محاربة الفساد لا تنجح دون قضاء مستقل ونزيه فيه اطر العدالة والشفافية . فلا بد أن نأخذ بعين الاعتبار أن القضاء إذا كان ضعيفا ، فذلك يعتبر سببا مشجعا لتزايد الفساد المالي والإداري.

اقتصاديا ، يظهر وحش السوق الموازية على الخط ، التهريب الذي بات يشق البلاد وينهش اقتصاد الدولة . هذا بالتوازي مع فساد في قطاع الديوانة مما يجعل الحاجة ماسة لإعادة النظر في هيكلته وموظفيه والطرق المتبعة فيه . قطاع بات من القطاعات التي يستثرى فيه الموظفون بطريقة سريعة دون مسائلة أو رقابة . والحقيقة ، أن هذا الاستثراء لا يقتصر فقط على قطاع الديوانة بل أيضا على قطاع إداري تونسي ، صحيح بدرجة أقل وصحيح بلا تعميم ولكن هذه حقيقة يفقهها كل ملاحظ للقطاع الديواني خاصة والإداري عامة في تونس . مما جعل رؤوس الأموال يتهربون من القيود الضريبية والجمركية عن طريق الرشاوي والتدليس والتزوير .

ولئن تعددت مظاهر الفساد فان الحلول التي بيد الدولة تتلخص في ثلاثة توجهات عامة ، ارادة سياسية في محاربة الفساد لا يشق لها غبار والتي تتطلب قائدا شجاعا وسياسيا نزيها يحمل فكريا وعمليا هذه الإرادة . كذلك رزمة تشريعات قوية تشمل كافة المجالات وعمل حقيقي على تفعيل التشريعات وردع كل مجاوز مهما كان منصبه او صفته أو نسبه . وكذلك مراقبة شاملة أي دور رقابي قوي تمارسه الدولة بمؤسساتها ومجتمعها المدني وإعلامها بالتوازي مع قضاء نزيه وشفاف وفوق كل الشبهات.

الدولة اليوم بحاجة لفتح ملفات الصفقات العمومية التي تمت والتدقيق في مدى شفافية إبرامها ، بحاجة لتدقيق واضح في الثروات الوطنية عبر لجنة مستقلة ونزيهة وهذا من شأنه إدراك الرأي العام لحقيقة ما له من ثروات في دولته وأيضا من شأنه التجاوب مع مطالب المعارضة التي ظلت تطالب بهذا مدة طويلة . وهو ما جعل هذه المطالبة ورقة رابحة للمعارضة في ظل عدم تجاوب حكومي.

ولكن بعد كل هذا، يجب أن لا ننسى في هذا السياق أيضا أن الجانب الأخلاقي والتربوي له دور هام أيضا . فان العائلة والمؤسسة التربوية والدينية يجب أن تعمل على تثبيت القيم الدينية والأخلاقية والتربوية قبل القيم المادية . فالفقر أو تدني أجور العاملين لا يمكن ان يكون دافعا للفساد وتجاوز القانون والتعدي على حقوق الاخرين . رغم أن الدولة مطالبة أيضا في هذا السياق من العمل على تحسين الوضعية المجتمعية عبر محاربة الفقر وتطوير مستوى الأجور.

إن تونس تعيش على وقع سياسة حكومية تبنت من محاربة الفساد عنوان برنامجها . ولقد ظهرت بصورة حقيقة إرادة سياسية لمحاربة الفساد مع هذه الحكومة . فلا بد من الحكومة اخذ الحلول القانونية والتشريعية وإعطاءها حيزا مهما في هذا التوجه دون انتهاج سياسة تبعد رجال الأعمال ومالكي المؤسسات وتجعلهم يخرجون أموالهم من حركية القطاع البنكي، دون اتهام الأشخاص بلا تعامل واضح عبر قضاء نزيه و بتوفير محاكمات عادلة تحفظ حق الدولة والشخص في ان واحد. يجب على الدولة التعبئة في هذه الحرب والتوجه بها إلى آخر المطاف مهما كانت التكاليف . يجب على الحكومة أن تكون حازمة في فرض القانون ومحاربة الفساد وعدم استبعاد أي طرف من هذه الحرب إلا النزيه و من تثبت نظافة يديه.

لا مفر من هذه المواجهة التي هي بلا شك ستنفع المجتمع والاقتصاد الوطني . ستنفع الأجيال القادمة وهي مصير محتوم قد يختلف توقيت بدايته ولكنه محتوم . لذلك فبدايته من 2017 سيجعلنا نربح الكثير من الوقت ونساهم في وضع الدولة على مسارها الصحيح ببناية صلبة تقوى على هبوب الريح ، ريح الفوضى وغياب القانون وترهل الاقتصاد .

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.