تعيش تونس خلال السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ ما بعد الثورة، على وقع ظاهرة هي غريبة عن عادات مجتمعها المسالم وتقاليده، وأسفرت عن سقوط عشرات الضحايا وزرع الحزن، وثكل أمهات ويتم أطفال وترميل نساء.
الإرهاب، وإن كان ظاهرة معولمة، فإنه غريب عن الشعب التونسي الذي لم يعرفه الا مؤخراً من خلال سلسلة اغتيالات لشخصيات سياسية واستهداف لأبناء الوطن من الجيش والأمن وتفجيرات وغيرها.
و آخر العمليات تلك التي استهدفت أول أمس منزل وزير الداخلية بمسقط رأسه في القصرين وأدت إلى مقتل اربعة أمنيين دافعوا عن المنزل وساكنيه رغم قلة سلاحهم وغياب الدعم، إلى آخر رمق فيهم.
بعد هذه العملية الإرهابية كثرت التحليلات الأمنية والاستراتيجية من خبراء ومحللين ملؤوا الشاشات واحتلّوا صفحات الجرائد.
ولكي نبتعد قليلاً عن الجانب الأمني من الظاهرة الإرهابية ونحاول الإحاطة بجوانبها الاجتماعية، التي لها دور كبير في الحدّ من الإرهاب إذا تم تحديدها ومعالجتها، كان لنا هذا الحوار مع الباحث يوسف بلحاج رحومة، الذي قدّم شرحاً للظروف التي تسمح بانتشار الارهاب وتغلغله في الاجتماع.
كما بيّن فحوى الرسالة التي أراد الإرهابيون إرسالها من خلال عملية القصرين الأخيرة وطرح وجهة نظره المتعلقة بالتصدي لهذه الظاهرة.
كيف تقرأ العملية الإرهابية التي جدت ليلة أول من أمس واستهدفت منزل وزير الداخلية في القصرين؟
أولا، هذه العملية لها بعد إيديولوجي شامل موجه نحو غايات استراتيجية. فمعاداة الجيش والأمن الوطنيين هي معاداة غريزية تندرج ضمن التكوين الإيديولوجي والفقهي لتيارات الإسلام السياسي سواء التي أعلنت مباشرة عن نزعتها الإرهابية أو التي اختفت وراء شعارات الاعتدال والديمقراطية والتسامح. فالمنظومات العسكرية والأمنية الوطنية لا تتماشى مع مفهوم الأمة الافتراضية الذي تدور في فلكه تنظيمات الإسلام السياسي.
ومفهوم الجهاد الذي تدعو إليه هذه التنظيمات ينطلق من أساس تفتيت الجيش والأمن الوطنيين، حتى تتسنى إزالة الحدود القومية والوطنية، وفي نفس الوقت طمس التراث الوطني والقومي تمهيدا لإقامة إمارة إسلامية في انتظار ضمها لإمارات مجاورة سعيا نحو الخلافة.
تنظيمات الإسلام السياسي لا تعترف بالقوميات والأوطان، وسياساتها مهما بان عليها من لين وتطور فإنها تدور في فلك الهوس الإيديولوجي بالتمكين و"مفهوم الأمة" الذي ترتكب في سبيله أبشع الجرائم في حق الوطن والإنسان وذلك باسم فقه الذريعة والتدرج والتقيّة.
ثانيا، هذه العملية كان لها بعد تكتيكي موجه نحو غايات تكتيكية مرحلية. و قد كانت تهدف بالأساس إلى إرساء تقاليد لمثل هذه العمليات وللتخفيف من الخناق الذي يفرضة الأمن والجيش على الجهاديين خاصة مع تدهور الأوضاع في ليبيا. وربما للقيام بعملية اختطاف لأفراد من عائلة وزير الداخلية من أجل المساومة.
ما هي الرسالة التي أراد الإرهابيون إرسالها عبر هذه العملية؟
هؤلاء الإرهابيون يريدون التخفيف من القبضة الأمنية المفروضة عليهم بعد النجاحات التي حققتها المنظومة الأمنية التونسية اعتمادا على قوة السلاح والقوة الناعمة (الاختراقات والاستعلامات). وربما يريدون أيضا القيام بعمليات اختطاف لأفراد من عائلة وزير الداخلية من أجل ترهيب الأمن والحط من معنوياته والقيام بعمليات مساومة لإطلاق سراح الجهاديين المعتقلين. ومن ناحية أخرى تريد التنظيمات الإرهابية إرساء تقاليد وثقافة لمثل هذه العمليات وذلك بخلق أجواء بطولية مشحونة تشجع أصحاب الميولات الجهادية وخاصة الشباب على المرور من مرحلة الاستبطان إلى مرحلة التطبيق الجهادي. فالجهاديون وإن كانوا متفرقين لوجيستيا وتنظيميا فإنهم يتواصلون وجدانيا وبفاعلية كبيرة. ومن خلال ردود الفعل على الصفحات "الجهادية" في الفيسبوك يمكن أن نستنتج استبشار المئات من أصحاب الميولات الجهادية مع هذه العملية "البطولية".
هل تعتقد ان هناك مغزى لاختيار توقيت تنفيذ هذه العملية الإرهابية؟
هذه العملية أتت، مثلما أشرنا سابقا، بعد تضييق الخناق على التنظيمات الجهادية، كما أنها أتت بعد ظهور دينامية جهادية جديدة تتمثل في ثقافة الاختطاف والمساومة من اجل إطلاق سراح "الإخوة" أو "الأسرى" الجهاديين الذين وقع القبض عليهم من طرف قوات الامن. ففي الأيام الأخيرة قامت جماعة بوكو حرام باختطاف عشرات التلميذات في نيجيريا، مثلما قامت مجموعة جهادية باختطاف ديبلوماسي أردني و آخرين تونسيين ومصريين في ليبيا. وقد تكون هذه العملية رسالة ضمنية للتنظيمات الإرهابية في ليبيا من أجل إقناعها باللجوء إلى تونس في صورة تضييق الخناق عليها في ليبيا، باعتبار أن تونس أصبحت أرض جهاد وبأن المنظومة الأمنية هشة وبان "الإخوة" الجهاديين في تونس اشتد عودهم وأصبحوا أشداء وشجعانا ويقومون بالواجب بكل جدية.
ما هو حسب رأيك، سبب التأخير في وصول دعم إلى مكان الحادثة؟
تأخر وصول الدعم إلى مكان الحادثة يمكن تفسيره بضعف الحضور الأمني على المستوى المكاني والزماني القريب وبقلة التجهيزات، فالفرق المختصة في مقاومة الإرهاب ليست تنظيمات بالبساطة التي يتصورها الكثيرون. أما التحدث بنظرية المؤامرة فهذه مسألة خطيرة، لكن هذا لا يمنع الأخذ بعين الاعتبار الاختراقات الجزئية التي أحدثتها التنظيمات الجهادية في المنظومة الأمنية التونسية. فتسريب المعطيات الأمنية التي يراها الكثيرون بسيطة قد تكون لها انعكاسات خطيرة جدا.
كيف يمكن تفسير إطلاق النار طيلة 45 دقيقة؟
تواصل إطلاق النار لمدة 45 دقيقة يمكن تفسيره بأن هذه التنظيمات الإرهابية تتمتع بمنظومة استخباراتية محكمة وتستعمل وسائل اتصال عصرية تمكنها من تحسس الحضور الأمني على المستوى المكاني والزماني القريب البعيد والمتوسط، قبل وأثناء سير العملية.
هل بات من الوارد القول ان الإرهاب في تونس وجد حاضنة اجتماعية وتغلغل في المجتمع التونسي؟
ظاهرة الإرهاب ظاهرة معولمة، وتلعب الظروف الاجتماعية النفسية والثقافية والتعليمية كعوامل مدعمة لها، لكنها ليست العوامل الأساسية، فالإرهابي قد يكون "ثريا" وقد يكون من ذوي المستوى التعليمي الرفيع. فالإرهاب هو عقيدة وايديولوجية لها مرجعياتها ومنظروها، فهو فكرة قبل أن يكون مجموعة من الأشخاص والتنظيمات. أما الفقر فهو المناخ المحبذ لهذه التنظيمات الإرهابية التي تكسب ود الفقراء من خلال الأعمال الخيرية. كما أن انحطاط منظومة القيم الاجتماعية يساهم في التجاء كتلة اجتماعية مهمة نحو تبني عقيدة الإرهاب، كأن تصبح الرشوة فضيلة وأن يصبح اللص الذي يجمع ثروة كبيرة في وقت قياسي مثالا للنجاح الاجتماعي ويسعى الكثيرون إلى التودد إليه. هذا بالإضافة إلى طغيان المظاهر على الحياة الاجتماعية، والاستبداد والقهر الاجتماعي والسياسي والحضاري السائد.
كباحث، كيف تفسر انتشار ظاهرة الإرهاب في تونس خصوصاً بالنظر إلى أعداد المقاتلين التونسيين في عديد من الدول على غرار سوريا والعراق وحتى لبنان؟
تونس تمثل منجما للإرهابيين لأنها من البلدان التي اكتسحها التحديث الشكلاني بشراسة. هذا التحديث قضى على البنى والقيم الاجتماعية التقليدية لكنه لم يبلور البديل الناجع، فالحداثة التي شهدتها تونس قامت على أساس توريد وسائل العيش العصرية وثقافة الاستهلاك من الغرب وطغيان المظاهر على الحياة الاجتماعية، فأفرزت جيشا من العاطلين والمهمشين والمفقرين، مما جعل كتلة اجتماعية مهمة وخاصة فئة الشباب تنتكص إلى البنى الفكرية التقليدية لتستنبط منها عقيدة ونمط حياة يوفر الراحة النفسية كما يوفر أدوات للانتقام والتشفي من الاستلاب الحضاري والقواعد التي حكمت حياة الكثيرين.
ما هو رأيك في إضافة باب التوبة إلى قانون مكافحة الإرهاب؟
هذا الباب قد يكون ناجعا أمام الحالات "الخفيفة" التي تخص الشباب الذين اندفعوا بسرعة نحو "الجهاد" ، فمثلما كان اندفاعهم سريعا، قد تكون توبتهم سريعة وناجعة. أما الذين مروا بمراحل دمغجة متكاملة وطويلة المدى نسبيا، فتصعب توبتهم.
هل تعتبر ان هذا القانون قد يساهم في الحد من انتشار هذه الظاهرة؟
يمكن ان يساهم نسبيا لأنه قد يكون ناجعا، فقط، عند التعامل مع الأشخاص الذين اندفعوا بسرعة نحو الجهاد دون المرور بمراحل دمغجة متكاملة وطويلة.
إلى جانب الحل الأمني، كيف يمكن معالجة هذه الظاهرة لاقتلاعها من جذورها؟
إلى جانب القوالب الجاهزة والنمطية التي يقع اجترارها يوميا في وسائل الإعلام من قبيل "القضاء" على الفقر ؛ وإيجاد حلول للمشاكل الاجتماعية ؛ "دفع" التنمية ؛ "نشر" الثقافة والتعليم…. و بالإمكان الإشارة إلى نقاط أخرى من قبيل ضرورة التركيز على ضرورة الإحاطة بالأطفال والشباب في محيطهم العائلي والمدرسي لتكون بمثابة عملية استباق، وهذا يستدعي اختصاصا نفسيا اجتماعيا معمقا في إطار منظومة شاملة تعمل على مستوى العائلة والمؤسسات التعليمية ووسائل الاعلام والجمعيات الرياضية وغيرها. فكلمة السر هي الاستباق والوقاية أفضل من العلاج. هذا دون أن ننسى ضرورة القضاء على استبطان الاستلاب الحضاري والاجتماعي، وهذه مسألة معقدة أيضا وتتطلب اختصاصا معمقا.