الاحتفال المأتم لحركة النهضة

لا وطنية في الإسلام، إذن لا إسلام في الوطنية. هذا هو جوهر المتـن الاخواني. و ها هو الوجه المرعب للقرون الوسطى الذي دعا من منبر المجلس التأسيسي في سنة 2012 إلى قطع الأطراف لمن يشاغب و يعارض حركة النهضة باعتباره معارضا للإسلام، يظهر أمامنا في المؤتمر العاشر لهذه الحركة في 2016، بلباس "الكـفرة".

لـقـد رأينا السيد "الصادق شورو" و هو من ابرز وجوه حركة النهضة تطرفا و اخوانية و دعـوة صريحة إلى ممارسة الإرهاب، و الذي لم يكن ليـرتـدي إلا الجبة البيضاء المكسوة بترميـز أخواني لها باعتبارها رمزا للهوية الإسلامية. اليوم يتخلى عنها ليظهر بكسوة عصرية ملتمعة و حليق الذقـن.

فهل هي صورة الذئب في شكل حمل أم أن لا حول و لا قوة إلا بالله قد اشتغـلت ليس عند السيد "باجي قايد السبسي" فقط ليلتـقي الخطان المتوازيان بقدرة القهار الذي لا حيلة للبشر أمام قدرته، بل عند العاشق للأطراف البشرية المقـطعة ليتحـول إلى ملاك عـصراني حـليق الذقـن من اللحية المقـدسة و بزي لم يتم نـزع صفة الكـفر عنه و إنما تـلبسه دون أدنى مقاربة جديدة تحـول الكفر إلى إيمان على اقل تـقـديـر؟؟

فهل تحـولت حركة النهضة الإسلامية إلى حركة كافرة خاصة و قد تم التخلي عن الصفة الإسلامية بالوطنية؟ لماذا أصر السيد راشد الغنوشي على تحويل وجهة الوجوه المتطرفة مثل السيدين "شورو" و "اللوز" نحو الحداثوية التي تـثير المتـتبع و تستـفزه و تـؤكد له على أن طينة هؤلاء ما هي إلا النفاق؟ الأكيد انه أراد أن يمحو الوجه القـديم برمته و لكن الغلو في الشيء يفسده، و بالتالي فان الغلو مازال هو المحرك.

فلربما سنـشهد استبدالا للغلو في الدين مما أفـقـده حيـويته و واقعيته و تغيره الطبيعي إلى الغلو في الحداثوية و الوطنوية مما سيحافظ على الصفة الجوهرية لحركة النهضة كحركة غلو و زيف و شغب لا دور لها إلا إرباك المشهد العام و تميـيع مجمل المقولات و القيم. أي أنها ستكون نـفـس القوة التدميرية و لكن من الإسلام باسم تمثيلها له إلى الوطنية باسم تمثيلها لها.

فالمؤتمر العاشر الباذخ جدا لحركة النهضة فاق بذخ مؤتمرات حزب التجمع المنحل. ذاك الحزب الذي اعتبر نـفسه ممثل الوطنية التونسية و الممثل الأوحد بعـدما استولى على بقايا حزب الدستور. فهل أراد الحاكم بأمره في حركة النهضة القول بأنه قـد أعلن نـفـسه تجمعا جديدا، خاصة بعد الغـزل لراشد الغنوشي الذي استمعنا إليه من السيد "سليم شيبوب" احد ابرز رموز النظام الذي أزاحته الثورة؟ و جميعنا يعلم بالاتـفاق الحاصل حول ما يسمى زورا و بهتانا بالمصالحة الوطنية و التي هي ليست إلا مصالحة بين النظام النوفمبري و حركة النهضة. جوهر هذه المصالحة هو إقرار الفساد و الانفلات من القصاص العادل للمفسدين في الأرض.

وفعلا فقد تساءل النائب "عمار عمروسية" من الجبهة الشعبية عن مصدر هذه الأموال الضخمة لحركة النهضة. من حق التونسيـين أن يطلعـوا على مصدر هذه الأموال و لم نجد إلا السيد "حمه الهمامي" زعيم الجبهة الشعبية يقوم بكشف علني لأمواله و مصادرها، و عـوض أن تكون تلك الخطوة محفزا لبقية الزعماء السياسيـين لاتباعها فانه تم تـناسيها، بل ربما قـد تعـرض في الكواليس من طرفهم إلى الاستهزاء ذاك أنهم متيقـنين ان جزءا هاما من الشعب لا يحب النـزيهـين و الشفافين ماليا بما أنهم هم كذلك غير نزيهين. فالإنسان دوما ينظر إلى العالم انطلاقا من ذاته.

فعن أي وطنية تحدثـنا يا عم؟ كما ان السيد "عادل اللطيفي" أستاذ التاريخ في جامعة "السوربون" بباريس قد علق قائلا في صفحته على "الفيسبوك"، ان حـركة النهضة تـقـول أنها فشلت و لكـنها لا تحـدد فيما فشلت، و تـقول أنها تحولت إلى حزب مدني دون أن تصرح ماذا كانت، و غيرها من تـقـنيات الخطاب النهضوي المراوغ و العائم على سطح بركة آسنة. فمن الواضح أن بذخ هذا المؤتمر أريد منه إثارة الضجة في تونس و العالم العربي (لإنقاذ بقايا الإسلام السياسي من الفناء التام)، و كذلك رغبة في إيصال رسالة إلى الرعاة الدوليـين كونها حزب قوي لا يزال بإمكانهم الاعتماد عليه، و بالتالي عـدم البحث عن تـشكيل سياسي آخر لدعمه و هنا بالأخص السيد "محسن مرزوق" الذي يعتبره بعـضهم من الآن هو رئيس الجمهورية القادم.

أراد السيد "راشد الغنوشي" التـظاهر بالقوة أمام الجميع. أراد القول أن الإفلاس الإيديولوجي تم تعويضه بالثراء المالي و البروز كأكبر حزب في البلاد. و انه يعلم علم اليقين ان الشعوب تريد القوي، و بالتالي ما تم استبداله هو العنف الاخواني المباشر بالقوة المالية، و هي رسالة موجهة إلى الداخل و الخارج. الخارج المعولم السلعـوي و ليس العالمي الإنساني القيمي. الخارج الامبريالي الاستعماري الاانساني و ليس الحضاري التنويري الإنساني. و بالتالي فأساس الصراع مازال قائما بين النهضة اليمينية المحافظة (و قد صرح "الغنوشي" في خطابه في المؤتمر بكون النهضة تبق حزبا محافظا مثل الأحزاب المحافظة في أوربا) كممثل للعولمة السلطوية الذكورية الاستعبادية، و بين قوى اليسار كممثل للعالمية الإنسانية التحررية من العبودية و من اغتراب الإنسان عن إنسانيته..

فجميع المتـتبعين للشأن السياسي في تونس يؤكـدون أن القوى اليسارية المنـتـشرة هنا و هناك، لو تـتوحد في هيكل سياسي واحد فإنها ستكون أقوى حزب في البلاد بلا منازع، لكن مشكلة اليسار ان أغـلبه لم يتجاوز بعد مرض الزعاماتية فكل يحـسب نـفـسه إلاها، و انه متـشبث بما يفرقه فكريا عن الأطياف اليسارية الأخرى أكثر من تـشبثه بما يجمعه بها، و هذا نتاج انعدام الحوار البناء المتجاوز للماضي و المتجه إلى المستـقبل انطلاقا من 14 جانفي 2011. فالممثل الحـقيقي للثورة و الإنسانية متـشرذم نتاج انانويته الذاتية و تكلسه الفكري و الحركي السياسي، و بما ان الطبيعة تأبى الفراغ فالديناصورات قد تعود و قد يعود معها تـزوير الانتخابات بالتمادي في تـزوير الوعي بالمصالح الحـقيقية للجماهير عبر إلهائها و تـثبـيت أسس الوعي التعجيزي للإرادة الإنسانية الفردية و الجماعية.

وطبعا كل هذا الآن يتم انجازه باسم الوطنية و الأخوة و المصلحة المشتركة و العفو عند المقدرة و التسامح و غير ذلك من الترهات.. فالمسافة شاسعة بين التعلق بالقيمة في ذاتها و محاورتها على أساس الحقيقة، و بين تحـويل القيمة إلى أداة للاستعمال لأجل السلطة و الثروة.

ومن استعمال الإسلام إلى استعمال الوطنية.. فانك الآن أمام مطلب السلطة بكل سفور. دليل ذلك هو حضور رئيس الجمهورية السيد "الباجي قايد السبسي" إلى مؤتمر النهضة و إلقائه خطابا مكتـظا بالآيات القرآنية، و بعيدا ان النوايا الطيـبة التي من الممكن ان لا نعـدمها و المتمثلة في سعادته بضم حركة النهضة بين جناحي تونس التي اقر "راشد الغنوشي" أنها تبدأ من قرطاج و ليس من تاريخ غزوة "عقبة ابن نافع"، فان القراءة السياسية يزعجها هذا الحضور لرئيس كل التونسيـين لمؤتمر حزب من الأحزاب في نظام تعددي حزبي.

لكن من وراء الانـزعاج لا يمكن لنا إلا أن نرى صراعا قد بدأ من الآن حول منصب رئيس الجمهورية القادم. ففيها منافسان قويان هما "محسن مرزوق" الذي يبدو انه حائز على رضاء القوى الدولية الفاعلة في تونس، و "حمه الهمامي" الذي يـبدو انه بصدد تحصيل رضاء شعبي متـزايـد.

كلاهما يمثل سدا منيعا أمام صعود السيد "حافظ قايد السبسي" لمنصب رئاسة الجمهورية، و لذلك فان تأييد حركة النهضة للسبسي الابن قد يرفعه إلى هذا المنصب، و في كل الحالات ان لم يكن هو رئيسا فانه سيقـطع الطريق أمام صعود "حمه الهمامي" إلى منصب رئاسة الجمهورية، و بالتالي أهون الشرين بالنسبة للسلطة الحالية و مجمل خيوطها المتـفرعة من رجال أعمال و دوائر مالية داخليا و خارجيا. فالأهم هو استبعاد الشعب الكادح باسم الشعب، و استبعاد حكم المثـقـفين لصالح حكم البزنس و التجار و الجهلة لصالح العولمة السلعوية التشيـيئية للإنسان و الروح و القيم الإنسانية ضد العالمية التـنويرية اليسارية القادمة بتـشكلها الجديد التي لازالت تبحث عنه أو بصدد صناعته..

وختاما فان حقيقة كبرى نجحت حركة النهضة في تغـطيتها عن المتـتـبعيـن لمؤتمرها الباهر جدا، و هو ان المؤتمر كان احتـفالا مبهرج جدا و لكنه احتـفال جنائزي تم فيه تشييع جثمان الإسلام السياسي في تونس. كان إعلان هزيمة للإسلام السياسي و إعلان انـتـصار تونس عليه من قبل ممثـليه. هذا الاحتـفال المأتم كتـناقض ظاهري يؤشر إلى حقيقة مهمة، و هي أن حركة النهضة الإسلامية مثل حركة النهضة التي شيعت جثمان الإسلام السياسي ما هي في نهاية الأمر إلا أسطورة رجل ساحر هو "راشد الغنوشي".

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.