المنصف المرزوقي: الفقر فقران والبؤس واحد

نشر رئيس الجمهورية السابق المنصف المرزوقي…

نشر رئيس الجمهورية السابق المنصف المرزوقي مقالا على صفحته بموقع الفايسبوك قدم ضمنه قراءة للمشهد التنموي والثقافي في تونس معربا عن تضامنه مع المعتصمين  في معتمدية سيدي علي بن عون المطالبين بالشغل.

وفي ما يلي نص المقال:

الفقر فقران والبؤس واحد

عندما نتحدث عن الفقر فإننا نعني بصفة آلية وحصرية العوز والنقص في مستوى ما نملك من المادة وما نحصل عليه من خدمات ضرورية ثمّ تبعات الأمر من مكانة دونية في المجتمع ونقص في الاعتبار.

لن تجد فيما قيل بخصوص هذا الفقر في الشعر والأدب إلا الشكوى منه وسبّ الأغنياء.

انظر قول ابن نباتة:

وما الفقر إلا للمذلة صاحب ** وما النــاس إلا للغني صديق

انظر قول المتنبي:

يَجْنِي الغِنَى لِلِّئَامِ لَوْ عَقَلُوا ** مَا لَيْسَ يَجْنِي عَلَيْهِمُ العُـدُمُ

هُمُ لأَمْــوَالِهِمْ وَلسْـــنَ لَهُم ** وَالْعَارُ يَبْقَى وَالْجُرْحُ يَلْتَـئِمُ

هناك أيضا محاولات تخفيف وطأة اللعنة المصاحبة لرحلة أغلب المرتحلين كما يفعل بكثير من الطيبة وقدر أكبر من السذاجة ايليا أبو ماضي:

كـــم تشتكي وتقــــول إنك معــــدم ** والأرض ملكك والســـــماء والأنجم

هشـــت لك الدنيا فمـــا لك واجم؟ ** وتبســـمت فعـــــــلام لا تتبســـم

لا أنصح أحدا بأن ينشد هذه الأبيات للمعتصمين منذ خمسة أشهر في معتمدية سيدي علي بن عون  يطالبون بالشغل تحت شعار " راح العمر" ومنهم من تخرّج منذ سبع عشرة سنة وهو عاطل عن العمل إلى اليوم. نعم سرق الفقر اللعين أعمارهم وليت السلطات تتحرك لكي لا يضيع ما بقي لهم من عمر. حقّا إنه لكفر مبين وعدوان صارخ هذا الذي يتعرّض له الفقراء في كل مكان وزمان.

ثمة بعد ثالث لهذه اللعنة قلما يحرك لسان الشعراء وأقلام الثوار.

كارثة الفقر في الواقع كارثتان: التي ننتبه إليها الا وهي الحرمان من شروط الحياة الدنيا كالغذاء السليم والماء الشروب والتعليم المتين والسكن اللائق والعمل المحترم والاعتبار الاجتماعي …والتي لا ننتبه إليها كاستحالة الغرف من الكنوز الثقافية التي يزخر بها الفضاء الرمزي وهو الجزء الآخر المكوّن لعالمنا.

*

إن البشر لا يكدسون ثرواتهم في الفضاء المادي على شكل مواد وخدمات فحسب. هم يكدسون في الفضاء الخيالي الرمزي المسمى ثقافة كنوزا هائلة من الأدب والموسيقى والفلسفة وهي ثروات تراكمها الأجيال كما تراكم الثروات المادية في الفضاء الحسّي.

على من يريد التشمّت في الأغنياء – او الإشفاق عليهم – أن يتذكّر أنهم أغنياء في الفضاء الحسي المادي فقط . أغلبهم بؤساء في الفضاء الرمزي يقاسمون جلّ الفقراء بؤسهم الثقافي وهم لا يعلمون. نعم كم يثيرون شفقتي لمرورهم طوال حياتهم أمام كنوز لا يعون حتى بوجودها وهم كمن يمرون أمام أفخم المطاعم المفتوحة مجانا تقريبا فلا يلتفتون إليها مفضلين الأكل من الزبالة والنفايات.

كل الأثرياء يعرفون أن " المستوى الطبقي " يتطلب منهم زيارة باريس ونيويورك ولندن، لكن كم منهم مقتنع أنه سيموت غبيا لو لم يقرأ كتاب الطريق إلى الفضيلة للصيني لا وتسو أو لو لم يسمع موسيقى باخ ولم يتأمل في أشعار ابن عربي؟

*

إذا كان من السهل تعريف الفقر المادي ووضع مؤشرات له مثل الدخل الفردي ونوعية السكن والعمل والتعليم والخدمات الصحية الخ، فكيف نعرّف البؤس الثقافي وأي مؤشرات نخلقها لمعرفة انتشاره في مجتمع ما ولتتبع تطوّره؟

سؤال ليس الردّ عليه بالسهل. فالبؤس الثقافي حالة معقدة أساسها انعدام الوعي بأن الثراء ثراءان المادي والفكري-الروحي وغياب طموح تحقيق هذا الثراء بنفس القوة التي يجري وراءها كل إنسان لتحقيق الثراء المادي.

ثمة بالطبع الجهل المطبق بدور الثروة الثقافية في تحسين جودة الحياة على مستوى الصحة النفسية والجسدية وفي تمكين الإنسان من التعامل مع صعوبات الحياة بنجاح أكبر.

من مكونات الحالة أيضا جهل شبه تامّ بما يزخر به عالم الثقافة المحلي والوطني والعالمي من غنى فاحش في مستوى الأدب والفنّ والموسيقى وكل ما ينعش الفكر ويرفع الروح.

أخيرا لا آخرا، لم نعلّم أطفالنا كيف يجدون طريقهم في الفضاء الرمزي وما هي المعالم الكبرى التي يجب أن يزوروها لأنها ستثري زادهم المعرفي وستعينهم في حياتهم بكيفية بالغة الأهمية.

وبالنسبة للبالغين لا يوجد أدلّة ثقافيون يرسمون " خرائط " الفضاء الثقافي الهائل الاتساع و"وكالات أسفار ثقافية" تعين المبحرين خاصة في الفضاء الافتراضي الذي يضع اليوم في متناول الجميع أغاني صليحة التي أضاءت طفولتي مثلما يضع أشعار حافظ وهولدرلين والبياتي وأوبرات فاجنر وموسيقى الراجا الهندية.

إن من يدخل الفضاء الافتراضي اللامتناهي والذي تتوفر فيه كل هذه الأعمال والمتزايد زخما يوما بعد يوم، مثل مغامر يجد نفسه وسط قارة شاسعة لا يعرف فيها أين يجيل نظره ولا إلى أين يجب أن يتوجه. أنت كجائع أمام وليمة مفتوحة على الدوام، كعطشان أمام أنهار من الماء الزلال لا يكف تدفقها، كمتشرّد كل القصور مفتوحة أمامه ليدخلها على الرحب والسعة. المشكلة أن أغلب الناس دون " شهية " للغرف من هذه الروائع ، تساوى في الأمر الفقراء المعذورون والأثرياء المخدوعون بفهم قاصر ومتخلف للثراء.

يتبع مظاهر البؤس الثقافي في مجتمعاتنا

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.