ناجي جلول وأنصاف الحلول

لئن كان جزء مهم من المعطيات والأفكار التي طفق السيد ناجي جلول وزير التربية يطرحها عبر مختلف وسائل الإعلام،  يدخل حسب البعض في خانة التطوّرات الايجابيّة والمسلك القويم للنهوض بقطاع استراتيجي وحسّاس، فإن العديد من النقاط المهمّة ظلّت غامضة وفي حاجة الى مقترحات ومقاربات عمليّة وحلول جذريّة حتى تؤتي عملية الإصلاح التربوي أكلها وتحقق أهدافها المرجوّة التي من أبرزها ردّ الاعتبار للمؤسسة التعليمية  التي فقدت بريقها ومكانتها في السنوات الأخيرة.

فالإصلاحات التي أقرّتها وزارة التربية لهذه السّنة، على أهميتها حسب نظر السيد الوزير، تبقى دون المأمول إذا أخذنا بعين الاعتبار حجم وطبيعة الظّواهر السلبيّة التي جعلت اليوم من مسألة التعليم على قائمة ترسانة الإصلاحات التي تحتاجها بلادنا.

هذه الإصلاحات تبقى، في نظرنا، جوفاء ودون معنى في غياب استراتيجية واضحة المعالم تجعل من التلميذ نفسه محور عملية الإصلاح وذلك بتوفير الظروف والبيئة لاجتماعية والمدرسيّة الملائمة لدفع التلميذ على الإقبال على مدرسته التي يقضي فيها معظم وقته، بكل أريحيّة وشغف وارتياح خصوصا في ظل “استقالة” أو تفصّي الأولياء من مسؤولياتهم وإلقاء عملية التربية برمّتها على عاتق المربّين والمدرسة.

اليوم، وللأسف الشديد، لم تعد المدرسة الفضاء الآمن الذي يضمن للتلميذ حقه الطبيعي في التربية والتعليم. معظم الفضاءات التربوية التي خبرناها سابقا ملاذا وملجأ  للتلميذ من الانحراف والتسيّب أصبحت اليوم بؤرا ينتشر فيها المنحرفون الذين يضربون عرض الحائط بالقيم والأخلاق ويزرعون حالة من الفوضى والتشويش على زملائهم مما حدا بالعديد من الأولياء الى محاولة “إنقاذ” أبنائهم بتوجيههم نحو المدارس الخاصة خوفا عليهم من التأثر والانسياق وراء هذه الظواهر الهجينة التي ساهمت في تردّي صورة المؤسسة التربوية.

فظاهرة العنف المدرسي التي طالت كذلك الإطار التربوي نفسه في ظل غياب سياسة ردعيّة صارمة هذا بالإضافة الى  انتشار ظواهر أخرى لا تقل خطورة مثل استهلاك المخدرات وترويجها بين التلاميذ والانحلال الأخلاقي جعلت من الإصلاح الشامل ضرورة ملحّة شكليّا وتنظيميّا و هيكليّا ليشمل التلميذ نفسه محور العمليّة التربوية بالأساس. وحتى إقرار نشر بعض أعوان الأمن أمام المعاهد للحد من هذه الظواهر الخطيرة يبقى حلا مبتورا في ظل انتشار ثقافة العنف بمختلف أصنافه  لدى أبنائنا ولعل أكبر المخاطر التي تتربّص بهم اليوم هو استقطابهم من قبل الجماعات المتطرفة التي تسعى الى تحويل المنشئات التعليمية الى محاضن لتفريخ المتشددين دينيا بالنظر الى سهولة استقطاب التلاميذ.

وتضاف الى هذه المعوّقات ظاهرة العزوف عن الدراسة أو الانقطاع المدرسي المبكّر وهي إحدى الظواهر التي يجب على وزارة التربية أن تعمل على البحث فيها بجدية كبيرة خصوصا أن الأرقام تشير الى وجود أكثر 100 ألف حالة انقطاع سنويا في سن مبكرة. هذا يقتضي حتما تكثيف المجهودات على جميع المستويات للتقليل من نسبة هذا العدد المرتفع مقارنة بالعدد الجملي للتلاميذ المباشرين. وحتى قرار الوزارة القاضي بإنهاء العمل بنظام الفرق على اعتبار أنه – وبحسب زعم الوزير- المتسبب الرئيسي في الانقطاع المدرسي في الاوساط الريفية لا يرتقي الى مستوى الحل الجذري اذ يتطلب الأمر أيضا التنسيق مع مصالح وزارة الشؤون الاجتماعية للبحث عن حلول نهائية تضمن بقاء التلميذ داخل أسوار الحرم المدرسي. فظاهرة الانقطاع المبكر لم تعد مقتصرة على الأوساط الريفية أو المناطق المهمّشة بل طالت حتى المناطق الحضريّة وذلك بسبب الأوضاع الاقتصاديّة الصّعبة التي تمرّ بها معظم العائلات متوسّطة الدخل والتي تمثّل جزءا مهما من النسيج الاجتماعي.

ولعلّ هذا الأمر يجرّنا حتما الى الحديث على ما يسمّى بـ “مجانيّة” التّعليم التي تبقى مسألة نسبيّة بالنّظر الى ما أصبحت تمثّله عملية الإنفاق على الدراسة من صعوبة خصوصا على محدودي الدخل. فلا مجال اليوم للحديث عن التعليم المجاني في الوقت الذي يضطر فيه الوليّ الى الاقتراض أو الارتهان لدى البنوك ليؤمّن لأبنائه العودة المدرسية وذلك نظرا إما لغلاء المواد المدرسيّة في ظل عجز الدولة عن التدخّل لتعديلها أو لتعمّد المعلمين المبالغة في طلب توفير بعض الأدوات دون غيرها وذلك، على زعمهم، لضمان ظروف ملائمة لحسن سير الدرس وهو ما يثير عادة حفيظة الأولياء غير القادرين على مجاراة هذا الكمّ الهائل من الطلبات المبالغ فيها الى حدّ الإجحاف. هذا دون أن ننسى المراسيم والمعاليم التي يضطرّون إلى دفعها طيلة السنة بعناوين مختلفة ما أنزل الله بها من سلطان. و في ظل كل هذه المعطيات ولولا إجبارية التعليم  لكان عدد المنقطعين عن الدراسة كارثيا. 

وحتى لا تبقى عملية الإصلاح مجرد طروحات أو شعارات جوفاء يرددها مسؤولونا في كل المحافل، يبقى من الأسلم تشريك كل الأطراف والهيئات ومنظمات المجتمع المدني والأولياء أنفسهم والتلاميذ أيضا وتحميلهم قسطا من المسؤولية في هذه العملية التي يبقى نجاحها رهين توافق كل الأطراف والنأي بالمسألة التربوية عن المصالح الحزبية والسياسوية الضيّقة. 

ما قدمه السيد ناجي جلول، ذو الكاريزما العالية، الذي يحذق جيدا فن الخطابة، والذي استطاع في ظرف وجيز جدا أن يستميل جزءا لا يستهان به من الرأي العام الوطني، من قرارات لإصلاح المنظومة التربوية ورغم أنها نالت استحسان بعض الأولياء والمربين، الا أنها تبقى من قبيل أنصاف الحلول لأن عملية الإصلاح اذا ما اعتبرناها مقاربة شاملة ومسؤولية جسيمة لازالت تقتضي المزيد من المجهودات وتكريس مبدأ التشاركية في ظل عجز وزارة التربية وحدها عن تحمل كل هذه الأعباء.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.