أخيرا، وبعد حوالي 8 سنوات، قررت كسر ذلك الحاجز الذي صنعته لنفسي بيني وبين القطار كوسيلة تنقل بين العاصمة ومسقط رأسي صفاقس في رحلات باتت قليلة مقارنة بأيام الدراسة عندما كنت أستقل القطار حوالي 4 مرات شهريا ذهابا وإيابا بين المدينتين رأفة بجيب والدي الذي كان يسعى جاهدا لتوفير أحسن الظروف لي حتى أكمل تعليمي العالي.
وجاء قراري هذا يوم السبت الفارط عندما ذهبت في زيارة خاطفة إلى منزل عائلتي بصفاقس المدينة، حيث كان الوضع مبشرا بالخير يومها وكانت السفرة مريحة للغاية: أماكن كثيرة شاغرة في الدرجة الاولى ومكيف يعمل طوال الطريق وقاطرات نظيفة نسبيا وخاصة أذكر الوجه البشوش الذي قابلني به مراقب التذاكر في تلك الرحلة.
ولكن هيهات، لم تدم هذه الفرحة طويلا إذ عادت الذكريات السيئة لتعترضني فجر اليوم الاثنين 19 سبتمبر 2016، في رحلة العودة إلى العاصمة، عندما جاء قطار الواحدة والربع بعد تأخير بأكثر من نصف ساعة مثقلا بالركاب جلوسا ووقوفا فاضطررت لانتظار القطار الموالي لعلي أجد مقعدا أغفو عليه الساعات الاربع التي ستستغرقها رحلتي قبل التوجه إلى عملي، ولكن هاهو قطار الثانية و10 دقائق يأتي هو الآخر متأخرا بـ 20 دقيقة وحمولته لا تختلف كثيرا عن تلك التي شهدها سابقه.
ووجدتني مجددا أمام خيارين أحلاهما مرّ كنت قد تخلصت من ثقلهما منذ زمن: إما العودة إلى المنزل والتغيب عن العمل، أو الركوب بين القاطرات في وضع الوقوف طيلة 4 ساعات للحاق بالعمل. ومثلما كنت أختار الثاني رأفة بأبي، اخترته مجددا رأفة بلقمة عيشي، إلا أنّ حظي هذه المرة كان أفضل باعتبار أن أحد الركاب "تبرع" لي بمقعده في الدرجة الاولى نظرا لظروف خاصة كنت أمرّ بها.
غفوت قليلا قبل أن أسمع ذلك الصوت ينادي: "صباح الخير. كل واحد يحضر تسكرتو يا جماعة"، استفقت وإذا به يقول: "تسكرتك مدام"، وعندما استظهرت بها، نظر فيها مسرعا برد الفعل "هذه من فئة الدرجة الثانية".. وكان صبري قد نفد ولم أتردد لحظة في أن أجيبه: "أو تتصور أني وجدت مقعدا في كل القطار لأجلس فيه ولم أفعل؟ ألا ترى سيدي كيف أن الجميع يتكومون فوق بعضهم البعض في مشهد أقرب إلى عملية نقل للقطيع في الطريق إلى سوق أسبوعية أو "رحبة" قبل عيد الأضحى بأيام؟ عن اي درجة أولى وثانية تتحدث سيدي الكريم والحال أن الحشرات بأشكال وأنواع مختلفة تغزو القاطرات من جميع النواحي ورائحة الصرف الصحي لبيوت الراحة تفوح في كل الأرجاء؟…"
لعلني كنت فظة في إجابتي برأي البعض قليلا، ولكني وجدت رده عليّ أكثر فظاظة خاصة عندما قال بلغتنا العامية: "باهي يزي. هذا متقولهوش ليا. قولو غادي.. وإلا قيد في كراسة الحكايات الكل فمّاشي ما تبرد".
بصراحة لم أفهم أين تلك "الغادي" التي يقصدها، ولكن لعله يعني عند مسؤولي الشركة الوطنية للسكك الحديدية التونسية أو ربما لدى وزارة النقل، ولكن بالنسبة للكتابة فأنا لا أفقه غيرها ولكن في المنابر الاعلامية ليس لأن التي أستطيع من خلالها توجيه نداء استغاثة لكل هؤلاء ليس من أجلي فقط بل من أجل مواطن استوفى كل شروط المواطنة ولا يطلب في المقابل سوى أن تفي دولته بواجبها تجاهه وتجعله يحس فعلا أنه إنسان يقتطع تذكرة سفر مقابل مقعد في قطار يحوي أدنى شروط الراحة حيث لا يطلب أقصاها.
المطلب الملح اليوم للمواطن التونسي هو أن يحس بإنسانيته في بلاده، حتى نستطيع فيما بعد مناقشة أسباب الفساد وارتفاع منسوب الجريمة والهجرة غير الشرعية والانضمام إلى "داعش" الارهابي وتراجع الانتاجية وكل تلك الأمور المنسوبة للفعل البشري، أفليس من الاولى أن نشعر بأننا بشر حتى نحاسب على أفعال البشر؟