COP 21: الانحباس البيئي والانحباس الجيوسياسي

بتبادل القبلات والعناق على الطريقة الباريسية الحميمية أٌسدل الستار منذ عدة اشهر عن حلقة أخرى من المسلسل الأشد دراماتيكية في تاريخ الدبلوماسية البيئية في العالم  (أو ما اصطلح على تسميتهCOP 21 ) ، إثرها مباشرة انطفأت الأنوار وانخفض منسوب الانتشاء ليعود الجميع إلى رشدهم للتوقف عما "حققته"  هذه "القمّة المناخية التاريخية" …

بعد قرع المطرقة الخضراء إيذانا بافتتاح فعاليات الندوة، انطلقت مداخلات رؤساء وفود الدول الأكثر تلويثا لكوكبنا لتٌفصح عن رمادية وقتامة المستقبل البيئي الذي بانتظارنا…

منذ الوهلة الأولى حذر رئيس الوزراء الهندي الجميع بقوله بأن" الهند غير مستعدّة للتضحية بالمصادر التقليدية للطاقة (الفحم على وجه الخصوص)…"، أمّا رئيس الدبلوماسية الأمريكية فقد أعلنها صراحة بأنّ أيّ اتفاق ملزم حول المناخ سوف لن يٌقبل من مجلس الشيوخ، الرّوس بدورهم أبدوا عدم اكتراث بما يحدث في باريس، فالظفر بمكان بالمياه الدافئة "بالمتوسط" أفضل بكثير من المشاركة في حلّ معادلة بيئية مستعصية : انحباس حراري مقابل انحباس جيوسياسي.

التنين الصيني ، بطل موسوعة غينيس بدون منازع في نسختها البيئية ، بما يبعثه من أكسيد الكربون الذي يٌمثل رٌبع مجموع "غازات الدفيئة" في العالم، وما تقذفه مصانعه في ثلاثة أسابيع يعادل كمية الغازات المنبعثة من دول "الاتحاد الأوروبي" مجتمعة مدة سنة كاملة ، حافظ كالمعتاد على هدوئه الدبلوماسي وفق طقوس "كنفوشيوس" الصارمة والحكيمة، أما المنظمات غير الحكومية ONG فان قسما منها هلّل وصفّق بدوره لـ"الانجاز التاريخي" ترضية للجهات المموّلة… باختصار شديد، الجميع تقريبا كان يلهث طيلة فعاليات الندوة للظفر برقم حساب بيئي في بورصة خالية من كل رصيد وأسهم حقيقية…

فـ COP 21 – التي تصرّ الميديا ومن خلفها عدد من مراكز الضغط السياسية والمالية على وجه الخصوص إصرارا على توصيفها بـ"قمّة باريس للمناخ"، ما هي في حقيقة الأمر إلاّ "ندوة للأطراف" (Conférence des Parties – COP) للدول الموقّعة على "الاتفاقية الإطار للأمم المتحدة حول المتغيرات المناخية" لسنة 1992 المنعقدة على هامش "قمّة الأرض" بـ"ريو دي جانيرو" في البرازيل في نفس السنة، مهمتها تتمثل بالأساس في :

– تفعيل الفصل الثاني من نفس الاتفاقية التي تنصّ " على ضرورة العمل على الحدّ من الغازات الدفيئة بشكل يحقق قدرا كافيا من التوازنات البيئية…"

– العمل على تحيين "الساعة المناخية" من خلال اتخاذ التدابير الوقائية اللازمة على ضوء ما تتضمنه "تقارير المخاطر المناخية" الصادرة عن "مجموعة الخبراء الدوليين حول المناخ" GIEC التي تضم أكثر من 2000 خبير متخصص في المناخ والبيئة الخ.

كما إن الندوة الأولى للأطراف كانت قد انعقدت ببرلين سنة 1995 ومعها ازدادت وتيرة الانحباس الحراري بمعدّلات مخيفة ..فمسلسل/ COP شارف على 21 سنة من الاحتفال باللاّحدثLe non événement  ومٌرشّح لأن يتواصل لعقود أخرى من الزمن …

فقراءة لمخرجات "ندوة باريس" تفضي بنا ضرورة إلى التعاطي معها من زاويتين مختلفتين، من أمام وخلف عدسة الكاميرا.

1- أمام عدسة الكاميرا  

يتمّ التسويق بان "اتفاق باريس": كوني، طموح، تاريخي، وملزم وفق عبارات الرئيس الفرنسي وانه نجح في وضع التنمية المستدامة في صلب انشغالات المجتمع الدولي ..في حين أن حيثيات الاتفاق تكشف بانه إعادة إنتاج لمخرجات "كوبنهاغن" 2009 (COP 15) الفاشلة لكن هذه المرة بإخراج جديد أكثر حبكة لا غير.. فعدم تجاوز عتبة الدرجتين إلى موفى سنة 2100، والوعد بتمويل اقتصاديات الجنوب بما قدره 100 مليار من الدولارات لمساعدتها على التكيّف والانتقال إلى اقتصاديات صديقة للبيئة كانت جميعها مدرجة في بيان ندوة الأطراف "بكوبنهاجن" لسنة 2009 ، الفرق الوحيد أنه بالأمس القريب امتنعت عدد من الدول عن التوقيع أما اليوم فالكلّ مكبّل بالعديد من الضغوط والاكراهات الداخلية والخارجية تجعله غير قادر على تحمّل تبعات فشل الندوة بمفرده ودخول قفص الاتهام البيئي…

من حيث الشكل لم يرق "اتفاق باريس" إلى مستوى "المعاهدة" أو "البروتوكول" وبالتالي لن يحظى بالإلزامية من منظور القانون الدولي..كما يفتقر نص الاتفاق إلى صياغة قانونية قوية وفق تعبيرSandrine DUBOIS الباحثة /المديرة بـ CNRS حيث تم استخدام متكرر ومتعمد للفظ "يجب" عوضا عن لفظ "تلتزم" الأكثر حزما وإلزامية عند تحرير الالتزامات الدولية المتعددة الأطراف…  

في مستوى المضامين، نلحظ أيضا عدم التنصيص عن آلية زجرية محددة واضحة المعالم لوضع "اتفاق باريس" موضع التنفيذ الفعلي حتى نتمكن من الخروج من دائرة النوايا المفرغة، ولا جبرا للضرر للدول التي تضررت من التقلبات المناخية دون أن يكون لها دور في ذلك، ولا إشارة ولو خفية عن وضع حزمة من الإجراءات الرقابية الفاعلة لتحويل الوعود بخفض غازات الدفيئة Gaz à Effet de Serre التي تقدمت بها العديد من الدول المشاركة إلى واقع مٌجسّم وملموس، ولا اصداع بالحقيقة المؤلمة بأن المستوى الحالي لغازات الدفيئة (أكثر من ppm 560) بما فيها التعهّدات التي قدّمتها عدد من الدول يجعلنا على مسافة خطوة واحدة من خطّ "اللاّرجعة المناخي" le seuil d’irréversibilité climatique الكارثي وفق تقارير علمية مؤكّدة – راجع في هذا الصدد التقرير الخامس "لمجموعة الخبراء الدوليين لمراقبة المناخ" لسنة 2014 -…

2- خلف عدسة الكاميرا

حيث تتكشّف بوضوح تداعيات الانحدار البيئي الذي نعيشه اليوم.. جزر وأرخبيلات بالجملة في عرض المحيط الهادي مهددة بالانغمار في القريب العاجل .. دول ساحلية منها تونس  ستعرف مناطقها المتاخمة للشريط الساحلي وخلجانها نفس المصير في المنظور المتوسط إن لم يتم اتخاذ التدابير الايكولوجية اللازمة بشكل جماعي فعال وسريع..مزيد من التصحّر وتقدّم للصحراء.. هجرة ايكولوجية قسرية جماعية بدأت تتضح معالمها في العديد من بقاع العالم خاصة المدارية منها لتبلغ أقصاها مع حلول منتصف القرن الحالي في حدود 200 مهاجر ايكولوجي.. اختفاء متوقع لعدد من الكائنات النباتية والحيوانية بنسبة 30 بالمائة…

بالنهاية لابد من الإشارة بان المعادلة البيئية الدولية بشكلها المعلن الحالي تنطوي على مجموعة من العناصر يتداخل فيها البيئى بالجيوسياسى بشكل يصعب الفصل بينهما منها :

– اعتماد كلى لاقتصاديات الكثير من الدول – خاصة تلك المتضررة من الانحباس الحراري – على العائدات المتأتية من استخراج وإنتاج وتطوير حقول الوقود الأحفورى (النفط-الفحم-الغاز…)

– عدد من دول "مجموعة الملوثين الكبار" تعانى هي ذاتها من التداعيات المدمرة للمتغيرات المناخية، فالهند ثاني دولة منتجة للفحم في العالم تعرف العديد من الأعاصير والفيضانات، الصين ذاتها أعلنت في سابقة تاريخية  قبل أيام من انعقاد ندوة باريس عن فرض "حظرا للتجول البيئي

" لسكان عاصمتها "بيكين" من خلال دعوتهم بالالتزام بعدم الخروج من بيوتهم بعد أن سقطت المدينة في قبضة "الإرهاب الايكولوجي" ..

– حقيقة أن الصناعات العملاقة المتسببة في الدفيئة تغذى عالم المال والميديا وتتحكم بأنماط حياتنا اليومية…

اليوم وبعد اشهر من انقضاء "التخميرة" التي رافقت أجواء اختتام فعاليات "ندوة الأطراف" بباريس والاستعداد "لندوة مراكش" أو "كوب 22 " لسنة 2016 ، أصبح من المؤكد ، على الأقل لدى العديد من خبراء المناخ والقانون الدولي للبيئة، بأنّ مخرجات "اتفاق باريس" تشير بوضوح الى أنّ مرحلة الانتقال البيئي

من "اقتصاد أحفوري" إلى "اقتصاد أخضر" ستظل تترنح بين مطرقة الاحتباس الحراري وسندان الاحتباس الجيوسياسي…

يبدو أن الساعة قد حانت لتطوير آلية ندوة الأطراف والنأي بها عن الحسابات المصلحية الضيقة والمغلوطة، وفي انتظار تحقيق ذلك، لازال ساسة العالم الكبار مصممين على الاحتفال سنويا ببطولات 
 COPالوهمية في حين أن سقف بيتنا "الأرض" مهدد في أية لحظة بالسقوط على رؤوسنا جميعا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*باحث ومدرس جامعي مختص في القانون الدولي والتفكير الاستراتيجي.

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.