اُتهم بتجفيف "منابع الإسلام": محمد الشرفي الوزير الذي تنبأ قبل ربع قرن بخطر تمدّد الارهاب

"يفكّر الوطني في الأجيال القادمة أمّا السياسي فهو يفكر في الانتخابات المقبلة".

قد لا نبالغ إن جزمنا بأنّ هذه المقولة الغرّاء ، للمصلح العربي أحد رواد تيار النهضة العربية شكيب أرسلان في القرن التاسع عشر، يمكن أن تلخص مسيرة وزير التربية التونسي محمد الشرفي الذي وافته المنية سنة 2008.

إنّ الوضع الذي آلت إليه تونس في أعقاب انتصار المسار التحرري والديمقراطي فجرته الثورة التي أطاحت بمنظومة استبدادية ساهمت في صناعتها -بشكل جزئي طبعا- حركة النهضة التي جعلت من نفسها "فزّاعة" طيلة عهد بن علي على حدّ تعبير أمينها العام السابق حمادي الجبالي في الندوة الصحفية الاولى يوم 7 فيفري 2011 وذلك بعد خروجها للعلنية وعودة قياداتها من الخارج على غرار زعيمها راشد الغنوشي.

لقد ساعدت حركة النهضة نظام بن علي في مطلع التسعينات -بلا وعي وبطريقة غير مباشرة ربّما- على اكتساب مشروعية لحكم البلاد بالحديد والنار تحت ذريعة التصدي للخطر الأصولي الإسلاموي المتنامي وقتها والذي كان يهدّد البلاد والعباد على حدّ السواء ومثال ذلك ما حدث في الجزائر الشقيقة في العشرية الدموية.

من المهم هنا الاشارة إلى أنّ فترة أواخر الثمانينات في تونس قد شهدت صعود نجم شخصية استثنائية في تاريخ تونس المعاصر والراهن. ولم تكن هذه الشخصية المثيرة للجدل سوى امتداد لمشروع ورؤى إصلاحية كانت سابقة لعصرها من قبيل رؤى الطاهر الحدّاد والحبيب بورقيبة.

ويتعلق الأمر بالحديث عن رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان محمد الشرفي الذي تولى لاحقا بداية من سنة 1989 وإلى غاية 1994 مسؤولية الاشراف على حقيبة وزارة التربية.

لم يكن الشرفي القادم من مدينة صفاقس ، وهو سليل عائلة محافظة عرفت بالعلماء والمشائخ والقضاة تعود جذورها إلى الأندلس -في هذا المضمار يمكن فهم رؤية الرجل لفسيفساء الهوية التونسية التي يمثل الرافد العربي الاسلامي ركيزة أساسية فيها – غريبا عن مجال التعليم والتربية وهو الأستاذ الجامعي و"المثقف العضوي" الذي آمن بضرورة إعادة بناء الانسان التونسي على قاعدة قيم العقلانية والفكر النقدي و المواطنة والقبول بالاختلاف مراعاة لتحديات العصر وللحيلولة دون الانزلاق نحو التطرف والتشدّد الديني الذي هو مقدّمة مباشرة للارهاب الذي نعيش على وقعه اليوم.

يحدثنا محمد الشرفي في كتاباته على غرار "الاسلام والحرية: الالتباس التاريخي؟" و "كفاحي من أجل الانوار"  عن رؤيته للإصلاح التربوي الذي رام إنجازه بمشاركة ثلّة من رموز النخبة الوطنية التحديثية التونسية منهم على سبيل الذكر الاستاذ بالجامعة الزيتونية احميدة النيفر أحد المؤسسين للنواة الأولى لحركة النهضة الحالية (الجماعة الإسلامية سابقا). بيد أنّ هذا الطموح الجارف الرامي للارتقاء بالانسان التونسي وجعله مواطنا قادرا على منافسة نظيره الأمريكي أو الفرنسي فكريا وثقافيا وعلميا وحضاريا اصطدم بجبهة رفض وصدّ من القوى المحافظة المتكلّسة سواء من داخل نظام الحكم وحزب التجمع الدستوري الديمقراطي أو من أوساط المعارضة السياسية الإسلامية أو القوميّة التي اتهمته بالسعي لتجفيف منابع الإسلام الذي زرع في التربة التونسية منذ قرون خلت كما لم يتورع البعض الآخر عن اعتباره يدفع نحو تغليب النزعة الفرانكوفونية التغريبية على حساب الهوية العربية.

لقد كان الشرفي من الأوائل في تونس الذين تنبؤوا قبل عقود بخطر تمدّد التطرف الديني وما قد يتبعه من أعمال عنف و أفكار هدّامة لاسوار الدولة الوطنية والمشروع الإصلاحي في تونس الذي هو وليد تجربة خير الدين التونسي وسالم بوحاجب وأحمد باي والشيخ عبد العزيز الثعالبي وغيرهم من المصلحين التحديثيين في القرن الـ 19 وبداية القرن الـ 20. فمنذ نهاية الثمانينات تفطن وزير التربية السابق الذي كفّره "الإسلاميون المعتدلون" إلى مقاربة كثيرا ما تتردّد اليوم في وسائل الإعلام ومن قبل السواد الأعظم من النخبة السياسية  وهي التي تقوم على اعتبار أنّ مقاومة التطرف الديني المدثّر بعباءة الاسلام السياسي تنطلق من المعالجة الفكرية والثقافية والتربوية بما تتضمنه من أبعاد دينية أيضا قبل التعاطي الأمني والاقتصادي والاجتماعي بشكل عام.

الغريب في الأمر أنّ مشروع الإصلاح التربوي للوزير محمد الشرفي الذي يصفه زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي في كتابه "من تجربة الحركة الإسلامية في تونس"  بالعلماني الشيوعي الذي حارب الإسلام والإسلاميين ، في خلط متعمد بين المقدّس الجامع والسياسي المفرّق، قد أجهض في المهد لأسباب عديدة منها ماهو مرتبط بالوضع العام في تونس في أعقاب تعفّن الحياة السياسية في البلاد مطلع التسعينات وحسم النظام لمعركته مع الإسلاميين عبر الخيار الأمني الراديكالي وتوظيف القضاء للتخلّص من خصم سياسي، في حين أنّ بعض الجهات الحزبية مازالت إلى اليوم تصرّ على تحميل الرجل مسؤولية انخراط العديد من الشباب في فكر وتنظيمات كان هو السبّاق في التحذير من خطورتها ساعيا إلى قطع الطرق أمام المسالك المؤدية لها.

آخر التعاليق التي ربّما قد تثير ضحك البعض ممن عايشوا الرجل عن قرب أو من المطلعين على خبايا تاريخ تلك الفترة الحسّاسة من تاريخ البلاد صدرت عن عضو حركة النهضة والنائب عنها في مجلس نواب الشعب محسن السوداني -والغريب أنه من سلك قطاع التربية- حيث وصف "الدواعش" بأنّهم الأبناء الشرعيون لمحمد الشرفي!

ليس مهما كثيرا الانصات لمثل هذه الأصوات غير الموضوعية والمغرقة في الحقد الايديولوجي في مواقفها التي قد يجوز وصفها بالسياسوية الهادفة لتصفية حسابات خصومة تاريخية سيترك المجال فيها لمن يكتبون التاريخ بشكل احترافي للحسم فيها. لكن لابّد اليوم من إعطاء كلّ ذي حقّه والحيلولة دون تزييف التاريخ أو توجيهه على طريقة من كان يعتبر الشباب التونسي هو الأمثل يوم 14 جانفي 2011 في حين بعد تجربة انتقالية ومخاض عسير تراجع عن موقفه محمّلا محمد الشرفي ونظام بن علي على علاّته و أخطائه التي بعضها لا يغتفر مسؤولية تغلغل الفكر الارهابي في عقول بعض من كانوا بالأمس محلّ إشادة وتنويه.

 

 

 

 

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.