التعاطي إعلاميا مع الظاهرة الارهابية: الحق في المعلومة..الضوابط والحدود؟! بقلم هادي يحمد

يضمن الدستور التونسي ضمن باب الحقوق والحريات "حرية الرأي والفكر والتعبير والاعلام والنشر"(الفصل 31) كما يمنع ذات الفصل أية "رقابة مسبقة على هذه الحريات".

كما تضمن الدولة وهو موضوع هذه المداخلة "الحق في الاعلام والحق في النفاذ الى المعلومة طبق الفصل 32 من الدستور.

من البديهي عند الحديث عن الحق في المعلومة في هذا الاطار التحديد أننا نتحدث عن حق الوصول الى المعلومة كما يتعلق الامر بالحق في بثها ونشرها للرأي العام. وكما أن لحق الوصول أو النفاذ للمعلومة ضوابط وحدودا فإن للحق في بثها أيضا ضوابط وحدودا.

هنا نتحدث عن حق "تلقي الانباء والافكار واذاعتها بأية وسيلة كانت" وهو ما نصت عليه المادة 19 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان.

بناء على ماسبق واذا كان حق الوصول الى المعلومة حقا عاما يشترك فيه الاشخاص الطبيعيون والمعنويون على حد السواء، فان حق بث المعلومة وايصالها يبقى في الأعم الاغلب مهمة الذوات المعنوية وخاصة وسائل الاعلام مع توسع دوائر هذا الحق في العشرية الاخيرة ليشمل ما درج على تسميته بصحافة المواطنة بالنظر الى انتشار المواقع الاجتماعية وهو ما يطرح أكثر من تساؤل حول الضوابط والحدود التي من المفترض أن يقع الالتزام بها ، وكيفية التقيد بها. كما يطرح السؤال حول الهياكل والجهات المخوّل لها وضع هذه الضوابط والحدود.

من المهم في هذا التأطير القول بأن أهمية الحق في المعلومة تلقيا وبثا  يزداد خطورة بمعنى الاهمية والحذرعندما يتعلق بظاهرة خطيرة وحساسة على المستوى الامني كظاهرة الارهاب موضوع حديثنا في هذه الندوة.

فكيف يمكن التعاطي مع مبدأ الحق في المعلومة في سياق مواجهة الارهاب في بلادنا؟ وماهي المحاذير التي يمكن أن تنجر عن الاستعمال السيئ لهذا الحق؟ وبشكل أدق: كيف يمكن التعاطي اعلاميا مع الظاهرة الارهابية؟.

1 ـ التجربة الاعلامية التونسية في التعاطي مع ظاهرة الارهاب:

لنا في التجربة التونسية في محاربة الارهاب وسيلتان اعتمدناهما في التعاطي مع ظاهرة الارهاب اعلاميا.

كلنا يعلم أن الارهاب الذي يضرب بلادنا هذه السنوات ليس مستجدا. صحيح أن الظاهرة أخذت أبعادا جديدة بعد الثورة عن طريق انتشار العديد من المجموعات الارهابية في المناطق الجبلية وقيامها بعمليات اغتيال داخل المدن، ولكن من المهم القول أنها الظاهرة كانت موجودة في عهد الرئيس السابق حيث قامت الجماعات الارهابية بالعديد من العمليات.

في تونس لنا تجربتان اعلاميتان في التعاطي مع ظاهرة الارهاب:

أ ـ  أسلوب التعتيم والمغالطة في محاربة الارهاب: من المهم التذكير في هذا المقام بعمليتين ارهابيتين وقعتا في تونس قبل الثورة و تم التعاطي معهما بالتعتيم الكامل وأحيانا المغالطة.

الحادثة الاولى، هي حادثة تفجير جربة الانتحاري الذي وقع يوم 11 أفريل 2002. لم تفصح السلطات الامنية في تلك الفترة عن طبيعة الحادثة الا بعد تدخل السلطات الامنية الالمانية في التحقيق بالنظر الى أن غالبية الضحايا كانوا من هذا البلد. مُنع الوصول الى مكان الحادث بالنسبة للصحفيين التونسيين كما ضُيق النشر على تفاصيل العملية واُقتصر في الغالب على المعلومات التي سربتها وزارة الداخلية لبعض الصحف الموالية للسلطة.

الحادثة الثانية هي عملية سليمان التي قامت بها خلية ارهابية في نهاية ديسمبر من سنة 2006 وبداية جانفي 2007. سارعت احدى الصحف اليومية القريبة من السلطة انذاك مباشرة بعد العملية الى وصف المجموعة بكونها "مجموعة من تجار المخدرات".

في الحقيقة لم يمنع هذا التناول الاعلامي والذي ساده التعتيم والمغالطة من تواصل انتشار السلفية الجهادية بين الشباب التونسي. في هذا الاطار يمكننا اعطاء مثالين يمكن ان يكسرا الانطباع السائد اليوم بان المعالجة الامنية وما مارافقها من معالجة اعلامية كانت قبل الثورة أكثر فعالية وأكثر جدوى في معالجة الارهاب.

أولا: أعداد المعتقلين المحالين على قانون الارهاب الذي وقع سنه في 10 ديسمبر 2003 والذي تقول تقارير الجمعية الدولية لمساندة المساجين السياسيين التي اهتمت انذاك بالدفاع عن قضايا الجهاديين أنهم وصلوا الى أزيد من ثلاثة الاف معتقل.

ثانيا: أعداد التونسيين الذين انضموا الى الجماعات الجهادية في العراق ما بين سنتي 2003 و 2010 حيث تقول كل التقارير أن التونسيين كانوا في المرتبة الثانية من حيث أعداد المتطوعين الاجانب بعد السعوديين في العراق (أنظر كتابي: "تحت راية العقاب: سلفيون جهاديون تونسيون"(*) في الحديث عن وثائق سنجار التي عثرت عليها القوات الامريكية).أي أن ظاهرة هجرة التونسيين الى بؤر التوتر لم تكن جديدة.

  • اذا يمكننا أن نخلص الى أن ضرب مبدأ الحق في المعلومة (وصولا وبثا) لدواعي أمنية وبسبب النظام السياسي المنغلق لم يؤد بالضرورة الى الحد من الظاهرة الارهابية بخلاف المقولات السائدة والتي تكرر دائما بأن النظام السابق كان أمنيا واعلاميا أكثر قدرة على محاربة الارهاب.

  • كما يمكننا أن نخلص في هذا الاطار الى أن التضييق وضرب المؤسسات الاعلامية أو حجب الصحف والحد من دورها بحجة الامن القومي لا يؤدي بالقطع الى القضاء على الارهاب.

  • أخيرا من المهم القول أن أسلوب التعتيم والمغالطة وطمس المعلومات عن المواطنين يمكن أن يكون طريقة لجذب الشباب الى هذه المجموعات الجهادية السرية والتي تتعرض الى الضغط والسجن بمنطق أن كل ممنوع مرغوب وأن السلطة القامعة للحريات لا يمكن أن تكون الا على خطأ.

ب ـ أسلوب الكشف والتغطية الاعلامية المفتوحة: من المهم القول بأن تونس بعد الثورة أصبحت فضاء اعلاميا مفتوحا، ولا نبالغ في القول بأن قطاع الصحافة كان أكثر المستفيدين من أجواء الحرية التي سادت البلاد. أصبح الحق في المعلومة وصولا اليها وبثا لها مبدأ متفقا عليه بين الهياكل المهنية المهتمة بحرية الاعلام.

يمكننا في هذا الاطار الاستدلال بالعديد من التغطيات الاعلامية التي تؤكد أن اتاحة المعلومات للاعلاميين وايصالها الى الرأي العام قد ساهم في فهم أكثر من قبل الجمهور وتوعيته وبالتالي الانخراط في مواجهتها.

ويمكننا في هذا الاطار أن نستدل على التعاطي الاعلامي مع نوعين من العمليات الارهابية:

عمليات الاغتيال: اي اغتيال  الشهيدين شكري بالعيد ومحمد البراهمي، ورغم محاولات المواقع الاجتماعية وبعض وسائل الاعلام المحسوبة على التيارات الاسلامية المغالطة والترويج بأن "النظام القديم" أو "مؤامرة" من أجل اسقاط حكومة الترويكا هي أسباب هذه الاغتيالات، فان وسائل الاعلام لعبت دورا مهما في كشف حقيقة الجهات المنفذة للعملية. كان الوصول الى المعلومة من قبل وسائل الاعلام متاحا بفضل تعاون المصادر الامنية والقضائية والحقوقية عموما.

العمليات الارهابية في جبال الشعانبي: على الرغم من التكتم الامني المرافق للعمليات العسكرية التي تجري في مناطق جبالنا الغربية حيث تتمركز الجماعات الارهابية، فان تعاون المؤسسة العسكرية ومدها بتفاصيل العمليات أول بأول مكن وسائل الاعلام من الوصول في غالب الاحيان الى المعلومة الصحيحة وبالتالي تمكين المواطنين منها في وقتها وبالتالي توعية المواطنين بالاخطار المحدقة بالبلاد.

التعامل المفتوح لوسائل الاعلام مع الظاهرة الارهابية ما بعد الثورة (وصولا للمعلومة وبثا لها) أدى الى النتائج التالية:

  • جعل الظاهرة الارهابية قضية رأي عام ونقاش جماهيري

  • توعية الرأي العام بخطورة الظاهرة على المجتمع التونسي وخاصة في قضية تسفير الشباب التونسي للقتال الى جانب التنظيمات الارهابية في سوريا والعراق.

  • ساهم الاعلام بشكل مهم في تشجيع التونسيين على الانخراط في جهد محاربة الارهاب وربما يكون التفاف المواطنين في العديد من العمليات الارهابية مع قوات الامنية دليلا على بروز روح المواطنة في مواجهة الظاهرة: عمليات بن قردان ورواد وسوسة كلها نماذج لمساهمة المواطنين في مواجهة الارهاب بفضل الدور الذي قام به الاعلام.

  • لا نبالغ في القول أن الاعلام الحر أصبح يمثل عدوا رئيسيا للجماعات الارهابية وكل من يساندها من مبيضي الارهاب. الاكيد أن شعار "اعلام العار" الذي استعملته رابطات حماية الثورة المنحلة وبعض الجماعات الاسلامية المتطرفة، هو مثال للعداء الذي تكنه هذه الجماعات للاعلام الذي استطاع تشكيل رأي عام مناهض للارهاب والمحرضين عليه والداعمين له سياسيا ودينيا.

النجاح النسبي للاعلام الحر في تونس في المساهمة في محاربة الارهاب لا يمكن أن يمنعنا من الاشارة الى بعض الهنات التي رافقت مسألة الحق في المعلومة وصولا وبثا لها.

2 ـ الحق في المعلومة ..أي حدود؟!

لم تكن التغطية الاعلامية للظاهرة الارهابية وردية في مجملها. عرفنا في العديد من الاحداث تساؤلات حول الضوابط  والحدود التي تحد من دور الاعلام في تغطيته للعمليات الارهابية.

لا شك ان وقائع استدعاء العديد من الصحفيين أمام قضاة التحقيق في العديد من المناسبات يكشف بعض الخلل لا فقط في بعض التغطيات الصحفية ولكن أيضا في القوانين المنظمة للنشر نتيجة واقع اعلامي متحرر من كل القيود ويحاول في ذات الوقت أن يتهيكل ويسن قوانين ذاتية من أجل ضبط حرية التعبير.

من المهم القول أن وضع الحدود على النشر والحق في المعلومة تضبطه المبادئ الدولية ذاتها التي تقر بحرية التعبير حيث تقول منظمة المادة 19 المهتمة بالدفاع عن حرية التعبير في تعريفها لذاتها "تدافع منظمة المادة 19 على الحق في حرية التعبير وحرية المعلومات وهذه الحقوق مكفولة في القانون الدولي لحقوق الانسان ولكن يمكن تقييدها".

في هذا الاطار يمكن اعطاء بعض الامثلة التي نعتقد أنها كانت سببا في أحيان كثيرة في توتير العلاقة بين الهياكل الاعلامية وبعض الاجهزة الامنية وخاصة جهاز مكافحة الارهاب وكذلك قضاة التحقيق.

أ ـ استدعاء الصحفيين طبقا لقانون مكافحة الارهاب: حيث أصدرت نقابة الصحفيين التونسيين يوم 16 فيفري 2016 بيانا ادانت فيه ما اعتبرته "توظيف قانون مكافحة الارهاب من أجل استدعاء الصحفيين للتحقيق وبالتالي التضييق عليهم "ومحاصرتهم وتخويفهم". (قضايا حقائق اون لاين ، اخر خبر اون لاين، تغطية واقعة رأس الراعي مبروك السلطاني من قبل صحفي التلفزة الوطنية).

ب ـ الاعتداءات المتكررة على الصحفيين من قبل بعض رجال الامن والتي كان اخرها الاعتداءات التي رافقت عملية محمد الخامس مساء الثلاثاء 24 نوفمبر 2015 وهي اعتداءات تكررت بالنظر الى رغبة الاعلاميين في التواجد بمكان العملية لنقل الوقائع مقابل التزام أعوان الامن بمبدأ حماية دائرة مكان العملية من أجل الحفاظ على اثار وملابسات الجريمة.

هذه العلاقات المتوترة بين بعض الاعلاميين وبعض رجال الامن أو قضاة التحقيق يمكننا فهمها في النقاط التالية:

  • سوء فهم لحدود حرية النشر بالنسبة لبعض الاعلاميين بالنظر الى غياب الحرفية وبالنظر الى حداثة تجربة تغطية عمليات الارهاب. (تغطية عملية باردو على المباشر مثلا أو قيام احدى القنوات الخاصة باستجواب جيران منفذ عملية محمد الخامس على المباشر بما أدى الى اشادة بعض الشهادات بالانتحاري). لهذا السبب قامت نقابة الصحفيين التونسيين منذ نهاية سنة 2015 بتركيز مرصد من أجل رصد اخلالات المهنة الصحفية اثناء تغطيتها للارهاب واعمال الكراهية والنزاعات المسلحة. وهو جهد يدرج ضمن التعديل الذاتي للقطاع.

  • ساهم بعض رجال الامن والحقوقيين في انتهاك ضوابط حق المعلومة عن طريق تسريب وثائق سرية او ملفات قضائية واعترافات تعتبر سرية جاريا البحث فيها بما ساهم في الكثير من الاحيان في الاخلال بالابحاث الامنية وحتى الى تمكين الارهابيين من الفرار او تغيير خططهم طبقا للمعلومات التي تأتيهم من بعض وسائل الاعلام التي نشرت معلومات من المفترض ان تكون سرية.

يمكننا أن نخلص الى ان انتهاك ضوابط الحق في المعلومة (وصولا وبثا لها) هي مسؤولية مشتركة بين جميع الفاعلين في العملية التواصلية في علاقة بتغطية العمليات الارهابية: اعلاما وأمنا وقضاء فضلا عن مؤسسات الدولة والمجتمع المدني.

في هذا السياق يمكننا أن نشير الى أن مشروع قانون حق النفاذ الى المعلومة الذي يعتزم نواب الشعب مناقشته  يمكن أن يكون بابا من الابواب التي ستضبط قضية الحق في المعلومة واطارها القانوني والمرجعي مع ما يمكن أن يثيره الفصل الخامس والعشرون من هذا القانون والمتعلق بالاستثناءات، حيث يحجر طبق هذا الفصل النفاذ الى المعلومات التي تتعلق بالعديد من المجالات الحساسة كالامن والدفاع القومي وسير الاجراءات أمام المحاكم وحماية الحياة الخاصة والمعطيات الشخصية وغيرها من الاستثناءات.

على أهمية القوانين التي من شأنها أن تنظم مسألة حق النفاذ الى المعلومة أو تلك التي تحد منها لدواعيَ امنية كقانون الارهاب مثلا، فاننا نعتقد أن التعديل الذاتي من قبل الهياكل المهنية ورسكلة قطاع الاعلام وتكثيف الدورات التدريبية في علاقة بالتعاطي الاعلامي مع ظاهرة الارهاب يشكل أفضل الضوابط التي يمكن أن تجعل الاعلام يساهم في دوره الوطني في مجابهة الظاهرة تساوقا مع الشعار الذي رفعته نقابة الصحفيين التونسيين منذ بداية العمليات الارهابية منذ بداية العمليات الارهابية وهو "أن لا حياد اعلاميا مع الارهاب".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مداخلة قدمت ضمن أشغال المؤتمر السنوي الأوّل لمكافحة الارهاب الذي التأم تحت شعار"مؤسسات تكافح الارهاب" بتاريخ السبت 5 مارس 2016 بتونس العاصمة وقد نظمه المنتدى القضائي للقانون والعدالة والامن.

آخر الأخبار

الأكثر قراءة

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.