سعيد "الحزين"…و الظّلم الأعظم

السّماء لم تبكِ هنا…لذلك سيتقمّص الكادحون هذا الدّور…ففي هذه الأقاصي إن لم تذرف السّماء دموعا سيبكي السّكان حتّى تبتلّ الأرض…حتّى تُملأ الوديان بدل أن تكسوها مياه اللّه…ملامح الموسم تدلّ أنّه لن يكون أخضر …فالأعشاب عجزت عن النّماء…و اصفرّت كل الحقول و البساتين…و كأنّها تطرد" سعيد" و غيره من رعاة الغنم من المكان…و تحثّهم على البحث عن مساحات خضراء تتغذى من خلالها الدّواب…

الأنباء و الروايات لا تخبر بموسم جيّد في "المبطوح" و "الفريقة" …و لا حلّ غير السفر جنوبا..إلى الأقاصي …و هذا ما حدث فعلا…" العم سعيد" لا يملك غير هذه الأغنام …فهي مصدر رزقه الوحيد و المورد الذي تقتات منه عائلته …منذ سنوات…كان هذا الشّقي لا يملك غير بضعة خرفان…فأرسل أولاده إلى مختلف أصقاع الجمهورية للعمل و رعي الأغنام لمضاعفة ملكهم من الغنم…حتى يقيهم الفقر و الخصوصية…وهو ما حدث فعلا…

هم لا يتجمّعون إلا في المناسبات الكبرى كالأعياد…ثم ينتشرون في الأرض للعمل ثم العمل…يعرفون أنّ الدّولة لن توفر لهم شيئا و لا هم يطالبون بذلك…هم يعيشون على الهامش كما أغلب سكّان الجهة…انقضت تلك السّنوات و ازداد عدد القطيع و تضاعف معه عدد أفراد العائلة خاصّة بعد زواج الابن الأكبر…هذه العائلة لا تضمّ أحدا من أصحاب الشهائد(الشهادات) العليا …لكنّها في آن لا تضم من لا يعمل…كلّ يجتهد من مكانه…وكلّهم قد كرّسوا حياتهم لرعي قطيع أغنامهم…الذي تربّى معهم و استأنسوا به وهو الذي أعانهم على مقاومة الحياة أثناء الجفاف و أثناء المواسم النيّرة…الأغنام صديقة الفلاحين هنا…إذا جاعت جاعوا…و إذا شبعت فرحوا…هم يميّزون أصواتها …كما يميّز الثقفوت أصوات فنّانيهم و كما تُميّز الأمّ أصوات أطفالها…

في موسم كهذا وجب  على العم سعيد و الأبناء تدبّر حيلة لأغنامهم حتّى ترعى و حتّى يعيشوا في خير وأمن دون أن تُوفّر لهم الدّولة منحة …و لأنّهم من أكثر العارفين بالجنوب و بصحراء تطاوين و بأهلها…فقد تمّ التنسيق مع أحد الأصدقاء  هناك…وهو أيضا من مربّيي الماشية…لدمج القطيعين للرعي في أرضه مقابل مبلغ ماديّ ستدفعه عائلة سعيد…وهي عادة دأب عليها أهل البادية أثناء مواسم القحط وتُسمّى"العشابة"…استأجرت العائلة شاحنة لنقل أغنامهم من "الشردة" إلى تطاوين "البئرالأحمر" حتّى تعيش معها الأغنام و تعيش معها الأسرة…و في العشر الأخير من الرّحلة الطّويلة حدث ما لم يكن في الحسبان و ما لا يخطر في بال أحد من سكان الشردة و الغدير والفوني و غيرها من المناطق المجاورة…الحرس الديواني يحتجز قطيع الخرفان في منطقة "الغريف" بدعوى أنه قد تمّ تهريبه من ليبيا…نعم في عرف جمهورية الموز تعدّ "الغريف" منطقة ليبية و كلّ من يتواجد فيها هو  آت من الشّقيقة ليبيا…العم سعيد صار تعيسا…دهشته لا توصف و حيرته لا حلّ لها …الأغنام صارت بيد من اعتبرهم "حماة الدّيار"…كلّ ما حَلم به أبناء سعيد تبخّر فجأة…و كلّ ما بُنيَ بكدّ المتعبين و بعرق الجبين أصبح ملكه باطلا بعد هذه العمل الجائر…ما حدث ليس منعرجا…ما حدث كارثة بالنسبة لسعيد الحزين…تقاطرت الدّموع كشلّال…جرى أفراد العائلة من هنا و هناك…هاجر النّوم أعينهم…قضوا اللّيالي في الفيافي…باتوا عراة حفاة في صحراء الشّتاء البارد…انتظروا ساعات في بهو المعتمد..في بهو الوالي…في بهو القاضي…أمام الدّيواني…أمام الحرس …"لقد أسمعت لو ناديت حيّا…و لكن لا حياة لمن تنادي"…الحزن يلف بيت سعيد بعد بعد أن كان الهدوء يملأ يومياته…البال لا يهدأ لحظة…و الحيرة أضحت الرّفيق الدّائم…حتّى دموع الزوجة قرّرت أن لا تتوقّف عن السّيلان…هي فرحت بعد أن عثرت العائلة على مرعى للخرفان…فإذا بها تنجو من "ذئب المريفق" لتكون لقمة سائغة لـ"ذئاب الموز"…إنّها الكارثة…إنّه الظّلم الأعظم…إنّها التّعاسة بعينها يا  سعيد …أنت تعلم أنّ خرفانك و حالتك الأليمة لا يشعر بها الرئيس "الحنون"..و  لا وزير الشّعب…لكن المُشرّدين مثلك يعلمون أنّ هذا الإرهاب النّاعم كثيرا ما كان مؤشّرا لبداية رحلة  الإرهاب القذر.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.