محسن مرزوق والنداء الأخير

بإعلانه الانفصال عن حزبه واعتزامه تكوين حزب جديد في قادم الأيام، يكون الأمين العام السابق لحزب نداء تونس، محسن مرزوق قد وضع حدّا لمسار متعثر وحقبة حالكة في تاريخ هذا الحزب الفتي.

هذه القطيعة التي كانت نتاجا طبيعيا وحتميّا لمرحلة اتسمت بالصراعات الخفيّة والمعلنة والمعارك "السلميّة" احيانا والعنيفة احيانا اخرى، جاءت لتكرّس واقعا جديدا ومرحلة مختلفة في مسيرة محسن مرزوق الذي انتهج لنفسه طريقا جديدة قد تعصف بما تبقّى له من مطامح سياسية.

وبقطع النظر عن الحيثيّات التي رافقت هذا الانفصال مع حزب قدّم فيه مرزوق الكثير وسعى، كغيره من المؤسّسين من امثال الازهر العكرمي وبشرى بلحاج حميدة وغيرهما، الى جعله خصما شرسا وندّا قوّيا وسدّا منيعا أمام تغوّل حركة النهضة آنذاك، فان الأمانة التاريخية تقتضي الاعتراف بما لهؤلاء من دور ايجابي في نجاح الحزب وتحقيقه نتائج مبهرة زرعت بوادر الأمل لدى فئة غير قليلة من التونسيين ولو لفترة زمنية محدودة.

ولئن كان الاستحقاق الكبير في نجاح حزب نداء تونس يعود أساسا لزعيمه ومؤسّسه الباجي قائد السبسي، الذي استطاع بفضل الكاريزما وروح الدّعابة وتاريخه السياسي وخصوصا نجاحه في ادارة شؤون البلاد في أُولى المراحل الانتقالية بعد الثورة، ما أكسبه قاعدة شعبية لا يستهان بها، فإن الدور الذي لعبه مرزوق لم يكن بالهيّن أثناء فترة الانتخابات التشريعية والرئاسية خصوصا.

محسن مرزوق الذي كان يجوب البلاد شرقا وغربا، شمالا وجنوبا للتعريف بمشاريع الحزب المستقبليّة وأهدافه القريبة منها والبعيدة نجح في الأثناء في أن يصنع لنفسه صيتا وشهرة وتميّز في استقطاب عدد كبير من الناخبين بفضل حنكته ودهائه وهو ما جعل منه رقما صعبا في المواجهة مع خصومه، خصوصا من الاسلاميين ومن كل الذين داروا في فلكهم.

الرجل الذي كان يلازم الباجي قائد السبسي كظلّه، كان يدرك، في واقع الأمر، ان له من الامكانيات ما يؤهله ان يكون سياسيا بارعا ومقتدرا ومستقلا بذاته. مرزوق استطاع بفضل تكوينه وخبرته ونشاطاته المتنوعة في منظمات عديدة ان يتقن فن الخطابة والحوار والحجاج وحتى لا نبالغ في القول، فهو أبرز صنّاع نجاح الباجي قائد السبسي وهو من كان له الدور الابرز في بريق حزب نداء تونس وهو اليوم ايضا من تجرَّأ واطلق رصاصة الرّحمة على حزب بات يعيش حالة موت سريري منذ ان هجره مؤسسه وانتقل للعيش في قصر قرطاج وتركه يتخبط في اتون حرب طاحنة بين فرقاء لم يدّخروا جهدا في الانقضاض عليه وتمزيقه كما تنقضّ الوحوش على فرائسها.

مرزوق ومن معه من "الخوارج" على حزب نداء تونس يستعدَّون الى تكوين حركة أو حزب جديد. هم الآن يخوضون مغامرة غير محسوبة العواقب. فـ"بناء تونس" أو "فداء تونس" او "الوطنيون الاحرار" أو "النداء الجديد"، وهي الأسماء المقترحة للمولود السياسي الجديد، هو مشروع سيولد من رحم الحركة الأم بعد مخاض عسير وعملية قيصريّة مؤلمة. هو ليس بالمشروع المتكامل والمتأصَّل الأركان بل هو مجرَّد ملجأ سياسي أو مهرب بعد أن ضاق الخناق على مرزوق ومجموعته داخل الحزب وبعد أن أدركوا أن الرّياح أصبحت تجري بما لا تشتهي سفنهم.

حزب نداء تونس كما الحزب الذي يعتزم مرزوق ومن معه من المنشقّين تأسيسه، يشتركان في عناصر عديدة لعلّ أبرزها افتقاد كليهما لمشروع واضح المعالم ومتعدد الأهداف واحتواء كل منهما على قيادات صعبة المراس و"متشدّدة" ومتقلّبة المزاج. وحتى الحديث عن "النهج البورقيبي" او "المحافظة على المشروع الحداثي" وهي المناهج الكبرى التي يدًّعي كلا الحزبين اتّباعها، أصبحت من الشعارات المستهلكة. فالبورقيبية اصبحت أصلا تجاريا يدّعي كلُّ حزب امتلاكه. أو قُلْ علامة تجارية يستعملها كل طرف في كسب ودّ المناصرين. البورقيبية في اعتقادنا، فكر سياسي ومشروع مجتمعي اكبر من ان يكون موضوع مزايدات أو مجرًّد شعار يرفعه الجميع في معاركهم ونزالاتهم السياسية.

حزب نداء تونس أُسِّس أيضا، على "تحالف سياسي وانتخابي" وضمًّ روافد متنوعة ومتضاربة المرجعيّات الاديولوجية والفكريَّة يصعب تعايشها خارج هذا الاطار. وهو ما يؤكّد النتيجة التي وصل اليها الحزب اليوم من انقسام بالنظر الى هذا التمازج غير الطبيعي بين مكوناته. لقد كان الهدف الأبرز والأوحد من الالتفاف حول هذا الحزب حينها، مقارعة حركة النهضة والتصدّي لمشروعها الاخواني. وفي الواقع فقد وُفِّق الندائيون في ذلك بل وحققوا نتائج ملفتة للانتباه. أمَّا اليوم وقد انتفت الأسباب بل، ويا لسخريًّة القدر، أصبح عدوُّ الأمس حليف اليوم، بالتالي فالنتيجة أيضا انتفت بنهاية الأسباب. حزب مرزوق المفترض، لا تختلف حيثيات تأسيسه عن ظروف قيام نداء تونس.

فالمنتمون الى شقِّه وكل المناوئين لخصمه ابن رئيس الجمهورية ونائب رئيس "ما تبقَّى" من نداء تونس، حافظ قائد السبسي، ورغم ادّعائهم كما سبق وذكرنا بامتلاكهم لمشروع واضح، في الواقع يقودون معركة كبرياء وكرامة. لقد ساءهم أن يتمّ إخراجهم وإقصاؤهم بتلك الطريقة المهينة. لقد ضاق بهم فضاء الحزب وأدركوا أنهم يخوضون حربا خاسرة منذ البداية خصوصا أنًّ خصومَهم مدعومون من القصر الرئاسي.

لقد أدركوا ولو ببعض التأخير أنهم كمن يجدِّف ضدًّ التيّار وأنهم أمام الفرصة الأخيرة للنجاة وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لكنهم مدركون أيضا، كما كانوا في أوَّل عهدهم في نداء تونس، أن تحالفهم هو تحالف ظرفي وأنًّ خروجهم من الحزب، كما خروج قائدهم محسن مرزوق من جلباب الباجي قائد السبسي، ربًّما لن يهديهم الى برّ الأمان. هم على يقين أن أحلامهم كالسّراب الذي يحسبه الظمآن ماء. إنّهم اليوم كمن يطلق النداء الأخير.

 

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.