يا حكومتنا الموقرة.. يحفظك الله

كمن ينثر الورد في واد غير ذي زرع.. هكذا صارت حالنا بعد ثلاث سنوات من ثورة دحرجت رؤوسا كثيرة وردّت الإعتبار لمن نال منهم الظلم والظلام في نخاع العظم..

نحن بواد و-الحكومات المتعاقبة- بواد آخر، تنبئنا مع اشراقة كل صباح بأنّ قوافل الخير المحمّلة بجرار العسل في طريقها إلينا..ستفيض بلادنا لبنا وعسلا.. قليلا من الصبر فقط.. أيّها الشعب العظيم..

الكل ينآى بنفسه عن الواقع الأليم الذي تتحفنا به قنواتنا الوطنية في كل نشراتها الإخبارية:اعتصام هنا..واحتجاج هناك..واضراب يلوح في الأفق سيشمل كل القطاعات.. ولنا أن نفرح.لنا أن نهلّل.وطوبى للحزانى لأنّهم عند الله يتعزّون.

قيل لنا أنّ تونس ستشبه بعد الثورة جنّات من تحتها تجري الآنهار.وقيل لنا أيضا أنّ الحرية سينتشر عطرها في الأقاصي حتى يزكم الأنوف.. أما أرغفة الخبز فسيكون عددها أكثر بكثير من عدد الأفواه الجائعة.. جاري فقط نبّهني لأمر جلل.. جاري الذي قدّم ابنه مهرا سخيا لعرس الثورة قال لي:لا تؤذّن مع المؤذنين في مالطا،فلن يسمعك أحد.. هكذا صارت حال كل من ينتقد الوضع الراهن..

-الثورات العربية-وعدتنا بأنّ الخيرات ستتوالى. وسيعمّ الخير و الرفاه بلاد العرب من البحرين حتى أقاصي بلاد شنقيط موريتانيا العظمى، وستنال الصحراء الغربية نصيبها من الغنيمة أيضا.وعلى العرب أن يفرحوا. عليهم أن يهللوا للصدقات أمريكية هذه المرة.ولهم أن يبتهجوا بالنظام العالمي الجديد صانع المعجزات، وكافر من يردّد قول المسيح ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.

الكل يهرب من الواقع المؤلم،يحتضن طموحاته مرغما ويمضي بها.

من اعتقد أنّ الدين هو الحل لحلحلة الملفات العالقة ارتدى جلبابا "أفغانيا" وأطال لحيته وانتهى إلى أنّ الديمقراطية كفر وضلال.أما الذي يرى في "البروليتاريا" قوّة ضاربة وقادرة على ترجيح الكفّة لصالح الفقراء والجياع فانبرى ينظّر ويرمي -اللوم- جزافا على الناخبين الذين لم يهدوا له أصواتهم، وأشاحوا بوجوههم عن برامجه الثورية الواعدة.. موضّحا أنّ الطريق إلى جهنّم مفروش بحسن النوايا..

البعض منا أصيب بالفصام أيضا: يصفّق للنهضة صباحا.. وينتصر للقوى التقدمية عند المساء..!

أما أنا فمازلت ألعن أم الإنتهازيين وخالاتهم من الرضاعة.. والأمم المتحدة.. وكلّ قوى الخراب في هذا الكوكب الأرضي الكئيب..

لم أعد أعرف ماذا كان يجب عليّ أن أفعل، أخذت جرعة من الأمل، ثم دسست طموحاتي بين كتب الأدب، واعتبرت الكتابة جدارا أخيرا أحتمي به من الإنكسار. لعلي آمنت بأنّه لا فائدة من -الحكومة المنتَبة- إن هي ظلّت تعزف على نفس الوتر:التنمية قادمة.. العدالة الإجتماعية في طريقها إلينا.. والخير والرفاه سيعمّ  البلاد من شمالها إلى جنوبها.. وداعا أيها الفقر اللعين..

أنا لا أراهن كثيرا على -حكومة الحبيب الصيد- ولكن حضور الأمنيات القليلة اللطاف أفضل من غيابها الكلي.. لذا سأرتّل، بصوتي العليل تعاويذ الأمل.. وأكتب.. ولكن الحياة الكريمة أقدس من النص، والفعل المقاوم أعظم من أن تحيط به الكلمات..

يحدوني الأمل قليلا وأنا أتابع خطابات -رئيسنا العظيم سي الباجي-وهو يذكّر الجميع بحكمة ورثناها عن أجدادنا: لا تغلّب الفتق.. على الرتق.. واطلب المستطاع إن أردت أن تطاع.. ثم يتعهّد بإتخاذ اجراءات صارمة ضد الإرهاب.. "فينتفض جبل الشعانبي هلعا.. ووجلا..

يا رئيسنا الفذ نحتاج قليلا من صبرك الرباني فالرّوح محض عذاب.

إعلامنا المؤقّر -أبهجنا -بعودة- رموز التجمّع- إلى الواجهة كي يعلموننا المبادئ الأساسية للديموقراطية الحقيقية.. وحقوق الإنسان!! علنا نأسف على رحيل -المخلوع- ونذرف دموعا سخية بحجم المطر على الإطاحة بحزب التجمّع اللعين..

ثمّة في العيون غيظ مكتوم..

وطوبى للثكالى لأنهن عند الله يتعزين..

رئيس الحكومة (يحفظه الله) ينبئنا بأنّ أوضاعنا الإقتصادية ليست على ما يرام،أما بخصوص القروض الذي "يتكرّم" بها علينا صندوق النقد الدولي فستخصّص للإستهلاك بدل التنمية، وما علينا والحال هذه، إلا أن نواجه مصيرنا الكئيب بأمعاء خاوية.. بعد أن تراجع الدعم العربي وشحّ المال والماء والأمل..

علينا إذا، أن نهلّل.. ولنا أن نبتهج بالثورة التونسية المجيدة صانعة المعجزات.

وكافر من يردّد قول المسيح ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان..

رئيس حكومتنا هذا "أبدع" في التصريع.. بمعنى إثخان الجرح ورش الملح عليه بدل لملمته وتضميده.. صادق أنت وصريح.. يا رئيس حكومتنا المنتخَبة..!

غريب أمر هذا الشعب التونسي لا يكتفي بالخبز بديلا عن الحياة والكرامة. مدهش أمر هذا الشعب الذي أربك بثورته المجيدة أصقاع العالم..عظيم هذا الشعب الذي مضى لملاقاة دبابات وعسكر ولا سلاح معه غير جسده وإصراره،فمعنى ذلك أنّ المقدّس فيه قد تجلّى.

أفتح الأنترنات و -أتسكّع- بين مواقعه فأبتسم للتعليقات الساخرة على صفحات -الأصدقاء الفايسبوكيين- على مردود الحكومة وعدم قدرتها على ترتيب -ما بعثرته الفصول -لشعب أنهكه طول الإنتظار و من ثم دعوتهم للإعتصام غدا أو بعد غد.. لا يهم.. المهم أن لا تتوقّف الإحتجاجات والإعتصامات، وما على الجميع إلا أن يحملوا معهم زجاجات المياه المعدنية وعلم تونس وأحذية مريحة وسندويتشات تكفيهم طوال مدّة الإعتصام.. ويستلهموا من أبي القاسم الشابي المعنى الحقيقي للمجد والكرامة..

عجيب أمر هذا الشعب التونسي الذي يرفض أن تنتهي الحياة إكراما للذين تسابقوا للموت إعلاء للحياة.. وتمجيدا لها..

هذا الشعب التونسي العظيم يعلم علم اليقين أنّ هناك من عقد العزم على إبادة الحياة وعلى إفسادها وتحويلها إلى جحيم.وهو على يقين أيضا بأنّ -المفسدين في الأرض- يستدرجون الحياة إلى الهاوية.وهاهم جنودنا البواسل ورجال أمننا الأفذاذ يتسابقون إلى الموت لأنهم مؤتمنون على استمرارية الحياة. من هنا تستمدّ المواجهة لديهم عنفها المدوّخ الضاري.

تونس يا مهد الثورات العربية. تونس.. يا خضراء.. ذات ربيع رحل أوكتافيو باز*. كتب شعرا ثم رحل.لست أنا القائل بل هذا الشاعر الذي اسمه  أوكتافيو باز هو القائل: "لا يجب علينا أن نترك التماسيح الكبيرة تصنع تاريخ البشرية، إنني لا أستبعد الإنهيار الأمريكي فالتاريخ لا يمكن أن يتحمّل إلى ما لا نهاية هذا الإلتحام الهائل بين الموت والموت. لذلك أدعو دول العالم الثالث إلى العودة إلى الجوهر،وإلى الوقوف وقفة واحدة في مواجهة الجحيم."

حتما لم يكن أوكتافيو باز يدري أنّ التونسي سيقف في مواجهة الإرهاب والجريمة المنظمة وحيدا. و"سي الباجي"يدعو أيضا شعبه إلى الوقوف في وجه الإرهاب بجسارة من لا يهاب الموت.. يلغي سفره إلى جينييف.. ثم يقرّر حالة الطوارئ وحظر التجوال بتونس الكبرى.. أما اتحاد الشغل -يحفظه الله- فقد ألغى كل الإضرابات..

ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بذاكرته المنقوشة في المكان. أزمنة متراصة مكثّفة.

هي ذي تونس إذن. زمان تكثّف حتى غدا مكانا وحكايات، أقاصيص وملاحم، سماء تنفتح في وجه الأرض، أرض تتسامى وتتخفّف من ماديتها حتى تصبح كالأثير. ثم يلتقيان. الأرض والسماء يغدوان واحدا.

هي ذي تونس اليوم مجلّلة بالوجع ومخفورة بالبهاء: أمل يرفرف كلما هبّت نسمة من هواء.. ثمّة فسحة من أمل.. خطوة بإتجاه الطريق المؤدية، خطوة.. خطوتان ومن حقّنا أن نواصل الحلم.

ولتحيا الحياة.

آخر الأخبار

استطلاع رأي

أية مقاربة تراها أنسب لمعالجة ملف الهجرة غير النظامية في تونس؟




الأكثر قراءة

حقائق أون لاين مشروع اعلامي تونسي مستقل يطمح لأن يكون أحد المنصات الصحفية المتميزة على مستوى دقة الخبر واعطاء أهمية لتعدد الاراء والافكار المكونة للمجتمع التونسي بشكل خاص والعربي بشكل عام.